تيموثي آر نانغرليني
ترجمة وإعداد - أنيس الصفار
من الواضح أن نظريات المؤامرة، التي كانت في الماضي تنسب الى هوامش المجتمع وطبقاته الدنيا، قد انتقلت اليوم الى عالمنا المعاش وعلى نحو خطير.نظريات المؤامرة قادرة على التسبب بأفدح الأذى، ولقد وجدت بيئة خصبة في وسائل التواصل الاجتماعي، فهذه البيئة تسمح لأصحاب العقليات المتشابهة أن يتحاوروا عبر منابرهم بعيداً عن التوازن والاعتدال، إذ يستطيعون ان ينسجوا نظرياتهم ويطرحوا رؤاهم بشأن الحلول التي ينبغي اتخاذها لمواجهة التهديدات التي يعتقدون أنهم “كشفوا أمرها”.حين يصادف أحدنا حكاية متناقلة عبر شبكات التواصل، كيف له ان يميز إن كانت الحكاية حقيقة أم مجرد “نظرية مؤامرة” بلا أساس؟، لكن التمييز بين نظريات المؤامرة والمؤامرات الحقيقية ممكن باستخدام وسائل آلية قادرة على التعلّم والتعبير برسوم بيانية تحلل عناصر الحكاية وقوة الترابط بينها. هذه الوسائل تصلح كأساس أولي لمنظومة انذار مبكر تحذر الجهات المعنية كلما ظهرت على الانترنت حكايات من شأنها ان تشكل تهديداً في العالم الواقعي.
هكذا نجح فريق “تحليلات الثقافة” من جامعة كاليفورنيا في تطوير طريقة مؤتمتة تستطيع تحديد ما إذا كانت محاورة معينة تدور عبر وسائل التواصل تحمل ملامح التنظير لمؤامرة. طبق الفريق المذكور طريقته بنجاح على دراسات تناولت قضية “بيزاغيت” وجائحة “كوفيد-19” والحركات المعارضة للتلقيح، وهو يستخدم طريقته هذه حالياً لدراسة حركة “كيو أنون”.
فحين تكون المؤامرة حقيقية تبذل في إخفائها جهود معقدة، لأن المخططين لها أناس يعيشون في عالم الواقع ويعملون بتعاضد لبلوغ مآرب خبيثة. أما نظريات المؤامرة فإنها تبنى وتتطور بجهود مكشوفة من دون خفاء ويشترك فيه ويراها ويسمعها الجميع.
نظريات المؤامرة تتعمد فيها شدة التعقيد وجعلها تعكس منظوراً عالمياً شاملاً، وبدلاً من التركيز على شيء واحد محدد ومحاولة كشفه تنطلق هذه النظريات محاولة تفسير كل شيء من خلال فضح علاقات بين شتى مساحات التعامل والتفاعل بين الناس، علاقات كانت ستبقى غائبة لولا نظرية المؤامرة لأنها ليس لها من الأصل وجود.
الصورة الشائعة عن صاحب نظرية المؤامرة هي أنه شخص وحيد منكب على الجمع بين أشتات علاقات وصور والتوصيل بينها بخطوط حمر، لكن هذه الصورة لم تعد تنطبق في زمن التواصل الاجتماعي. لقد انتقل تنظير المؤامرات الى الشبكة “أون لاين” وتحول الى نتاج نهائي مشترك لتبادلات القيل والقال. عبر هذا الفضاء يصطنع المشاركون معالم حكايتهم وأطرها: الناس .. الأماكن .. والقصة والعلاقات.
التنظير للمؤامرة يحدث عبر شبكة الإنترنت بطبيعته، لذا تكون الفرصة متاحة للباحثين أن يتتبعوا مراحل تطور هذه النظريات، من أصولها الأولى وهي بعد مجرد شائعات ونتف اخبار لا تجمع بينها رابطة الى ان تتحول الى قصة شاملة متكاملة، وقضية “بيزاغيت” خير مثال لهذه الحالة.
أخذت قضية “بيزاغيت” بالتطور في اواخر شهر تشرين الأول 2016 مع بدء الاستعداد للانتخابات الرئاسية. ففي ظرف شهر واحد كانت الحكاية قد تشكلت وتكاملت بشخصياتها وأدوارها .. جرى تجميعها من فضاءات لا تربطها ببعضها علاقة لولا هذه القضية: سياسات الديمقراطيين .. الحياة الشخصية للأخوة “بوديستا” .. عشاء أسري عفوي .. وقصة تهريب الاطفال لممارسة طقوس عبادة الشيطان. أما الخيط الذي انتظم هذه الفضاءات وكان يستحيل جمعها لولاه فهو تفسيرات مغرقة في الخيال لتسريبات رسائل البريد الالكتروني الخاصة باللجنة القومية الديمقراطية التي طرحها موقع “ويكيليكس” في أواخر تشرين الأول 2016.
أنشأ الفريق أنموذجاً هو عبارة عن أدوات تمتلك آلية التعلم بوسعها تشخيص الحكايات القائمة على اساس مجموعات من الناس والأماكن والاشياء وربطها بعلاقات مع بعضها. خوارزميات التعلم الآلي تستطيع معالجة كميات ضخمة من البيانات لفرز ما يرد في البيانات الى فئات ثم تشخيص الفئة التي ينتمي اليها كل عنصر من عناصر
الحكاية.
حلل الفريق أكثر من 17 ألف مخاطبة للفترة من نيسان 2016 الى شباط 2018 تتناول بالمناقشة قضية “بيزاغيت”. كان الأنموذج يتعامل مع كل مخاطبة على اعتبارها فتاتة خبر خفي ثم ينطلق للكشف عن الحكاية كلها. البرمجية التي أعدها الفريق نجحت في التعرف على الاشخاص والاماكن والاشياء التي يرد ذكرها في المخاطبة ثم تحديد أيها عناصر رئيسة وأيها عناصر ثانوية وكيف جرى ربطها ببعضها.
كذلك يستطيع الأنموذج ان يحدد الطبقات الرئيسة التي تتكون منها الحكاية، وهي في حالة “بيزاغيت” سياسات الديمقراطيين .. الأخوة “بوديستا” .. العشاء العفوي .. عبادة الشيطان و”ويكيليكس”، ثم كيف اجتمعت الطبقات معاً لتشكل حكاية واحدة متكاملة.
للتأكد من دقة طرقنا اجرينا مطابقة بين المنحنى البياني لحكايتنا الذي انتجه أنموذجنا مع ايضاحات نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز” فتطابقا، بل ان منحنانا البياني اعطى تفاصيل أدق بخصوص الاشخاص والأماكن والعلاقات.
بعد ذلك حاولنا ان نرى إن كان بإمكانها التمييز بين نظرية المؤامرة والمؤامرة الحقيقية فذهبنا الى تحري قضية “برجغيت”، وهي تتعلق بفضيحة رشوة سياسية اقيمت ضد عمدة “ليفورت” بولاية “نيوجرسي”.
برز لنا من ذلك كله نمطان:
الأول أن منحنى قضية “برجغيت” اقتضى تشكله طيلة الفترة من 2013 الى 2020 في حين تكامل تكوين منحنى “بيزاغيت” في ظرف شهر واحد. الثاني أن بياني قضية “برجغيت” استطاع الصمود حتى بعد ازالة بعض العناصر منه، وهذا يشير الى ان سياسات نيوجرسي بقيت شبكة واحدة متصلة ببعضها حتى بعد ازالة رموز وعلاقات ذات صلة بالفضيحة.
على عكس ذلك تصدع المنحنى البياني لقضية “بيزاغيت” بسهولة ونتجت عن تصدعه منحنيات ثانوية صغيرة. فعندما ازلنا بعض الشخصيات او الاماكن او الاشياء والعلاقات المستمدة مباشرة من تأويلات وتفسيرات ما أوردته رسائل “ويكيليكس” الالكترونية تداعى الرسم البياني عائداً الى الفضاءات الاولية المفككة المستقلة عن بعضها.
ثمة تحديات اخلاقية واضحة يثيرها عملنا، كما أن بوسع من يشاء ان يوظف أدواتنا لابتداع نظرية مؤامرة جديدة بالكامل دون ان يكون لها أساس. غير ان مثل هذا التوظيف يحدث حتى من دون وجود ادوات جاهزة، وهو ما توضحه دراستنا لمنابر الإعلام الاجتماعي.
عن موقع “دفينس وان”