تثير بنائية هذه القصيدة ملاحظة جوهرية لها علاقة مباشرة بالمتحقق المأساوي المرافق لرحلة الشاعر جعفر هجول الى مدينة البصرة لحضور فعاليات مهرجان المربد سنة 2010، وعلى الرغم من أن هذه الموجهات ذات طاقة في تحققات القراءة التي يفترض بها أن تتعامل مع النص، بعيداً عن موجهات من الخارج، لكني أعتقد بأن التفاصيل ذات تأثير مباشر على القراءة التي لا تستطيع مقاومة المعلومات المحيطة بالنص ودوافع كتابته.
يبدو لي بأن هذا النص وثيقة وشهادة عن لحظة زمنية في حياة الشاعر، لحظة استقراء الآتي، واستشراف الما بعد. لكن هذا الخوف المبثوث في تفاصيل النص متسع وواضح للقراءة وهو تعبير عن لحظة ملاحقة له، لحظة عزل وانقطاع، لحظة الموت، وربما يتبادر للذهن الجو العام للنص وما أشاعه الشاعر من أحلام مستعادة وسعادة حاضرة، من إن النص احتفالي بالحياة وتتسع فيه فعاليات حياتية مستذكرة، مسحوبة من ذاكرة حية/ يقظة. وإشاعة الحياة من خلال تفاصيل البهجة والفرح، تنطوي في اللاوعي على خوف من اللحظة التي أشرنا لها، هي لحظة الموت. هذه التراجيديا القاسية التي وقفت عاتية في زمن متحرك. لكني أعتقد بأن الحياة وتفاصيلها هي الأكثر حضوراً في ذاكرة المتلقي والأوضح تأثيراً، والغريب في هذه القصيدة كما ذكرت أهمية البنائية الفنية/ والفكرية الكاشفة عن رؤية الشاعر تجاه الحياة والموت، على الرغم من أن الشاعر لم يقترب تماما من الموت ولحظة الإحساس به، فالقصيدة ضاجة بقوة الحياة وصخبها في أزمنة عاش فيها الشاعر وتعرف على البصرة، مدينة التفاصيل، إنها أزمنة الماضي/ الحاضر/ المستقبل، لكن الموت المعلن عنه في القصيدة هو الذي قطع على الشاعر فرصة معايشة المكان/ البصرة مستقبلا.
اعتمد الشاعر على استعادة الماضي والتغني به، ماضي المباهج الفردية وسعادات كثيرة، ضاجة في القصيدة مع ذاكرات وشخوص اقتربت إلينا وتلمسنا بعضاً منها. هذه التفاصيل الماضوية هي التي لم تفسح فرصة للموت بالمثول ولو خاطفا لأن الشاعر جعفر هجول لم يمنحه فرصة ولو سريعة للتسلل نحو قصيدته ذات التفاصيل الاحتفائية، وهذه هي السيادة الظاهرة في القصيدة للاحتفال بالقصيدة وحتى بالأمور البسيطة، ويبدو لي بأن الشاعر كاشف عن سرية خاصة وذاتية، لكن هذه السرية مضيئة لتفاصيل لم يصرح بها علناً، بل شفت ملتمعة في القصيدة أوقات للآخرين الذين عرفهم الشاعر وكانت البصرة مكاناً لتلك المرويات المكرسة بالتواصل المستمر. لقد استعادت ذاكرة الشاعر التفاصيل المكانية في مدينة البصرة والتفاصيل مكوّن بنائي في القصيدة ووحدة أكثر حضورا ووضوحا، لأن الجغرافية تشف عبر تنوع الفضاءات والأمكنة، والبصرة جغرافية فضاءات توحي بعدد من الوحدات المكانية وأشبع الشاعر هذه الوحدات، حتى تمظهرت كالتفاصيل السردية، التي هي من خاصيات الفضاء البصري. والفضاء مشتى والنوم بين المد والجزر، هذا مكان الأنا/ الذات، سرير هو الأسطورة والرحلات حركة مثل المد والجزر، وقصيدة الشاعر واضحة في التوحيد بينهما والرحلات وأحلامه الحالمة باللوز.
قصيدة حياة طافحة بالمتع واللذائذ، والأحلام التي لا تنتهي، لأنها متناسلة والمكان يحيا بأحلامه ويقظة الوافد إليه، محملاً بالحنين له في كل شتاء والبصرة حياة/ نبع متدفق باستمرار منذ الأزل، هذا هو الأسطوري في القصيدة، أسطورة المكان المقدس والتاريخ الذي تخلى عن وقائعه ليفسح مجالا للأسطورة/ والمقدس، حتى تبقى المروية حية في القصيدة والأسطورة أبقى من التاريخ حتى وان ظلت الذاكرة حية.
لِمَ لَمْ تغر إسماعيل ليبقى
لِمَ لَمْ ترو إسماعيل؟ وهو القاصد نبعا يتدفق بعد لقاء
النهرينحليبا...
من وحيك أسرج مهرته
واستبدل شمسا بشموس أذهلت الدنيا
لا تعرف غير الحب، وغير الحرب على الظلم وغير العدل طريق..
يلاحظ بأن الشاعر فتح أسطورة إسماعيل وجعل من القرنة مكان لقاء النهرين وتشكَّلَ مكان مقدس، إنه رحم حاضن للنهرين، ولأن إسماعيل ووالدته عرفا العطش، جاورهما الشاعر مع القرنة، فضاء خاصاً بالماء والعذوبة، هل هي دلمون كما في بعض الأساطير؟ أم هي فضاء الشعر الذي أسطر الماء، وكأن الشاعر استعاد الماء بوصفه رمزا متعالياً، بوصفه من الأنماط الرمزية العليا فضلا عن التراب/ الهواء/ الشمس، ولذا كان للشمس حضور في النص، وهو حضور مكشوف، أما التراب فله حضور رمزي في القصيدة وللهواء حضور يمكن الاستدلال عليه بواسطة المقاطع الشعرية المؤكدة على الحياة/ النخل/ اللوز/ العطر/ الشهد/ الورد/ الثمار/ الحلاوة/ كل هذا الحضور المألوف/ والمعروف لرموز وحياتيات من أجل البصرة، التي عرفها الشاعر وعاش تفاصيل الحلم فيها وتعرف على الحب هناك. لهذا الفضاء الواسع ارتباط قوي مع الشاعر واستدعاء الذاكرة بحضور رمزي لوقائع ومرويات كثيرة.
تتدلى من سقف محطات العمر ثمار
لا يعرف طعم المتدلي منها، إلا من ذاق حلاوتها
بعد النضج يتأرجح قلب العاشق
ويداه ممسكتان بضفيرة عاشقة أنعسها الوجد
في السبعين من القرن الماضي
وقصيدة (نبع يتدفق) مروية حازت على عناصر السرد المعروفة الزمان والمكان، الشخوص، كما تميزت هذه الحكاية بالسببية والنمو الداخلي الواضح، وما يميز القصيدة هذه عن المروية هو عناصر الشعر التقليدية وقد اخترقها الشاعر كثيرا بحيث ارتفع صوته بالحضور والهتاف لأن الشاعر جعفر هجول أراد إيصال خطاب/ صوت/ رسالة صريحة مكشوفة للمدينة التي عرفها.
* القصيدة الأخيرة للشاعر جعفر هجول وكان مفترضاً أن يقرأها في المربد، لكنه توفي قبل الوصول للبصرة يوم 21 آذار 2010