المرئي في المدن اللا مرئية

ثقافة 2021/01/09
...

عبدالزهرة زكي
 
في (مدن لا مرئية) لإيتالو كالفينو يصف ماركو بولو، التاجرُ والمستكشف الإيطالي، لكوبلاي خان، الإمبراطور الصيني، مدنَ الخيال والتفكر، تلك المدن اللا مرئية. وحتى إذا ما سأل الإمبراطور صديقه المستكشف عن سبب عدم وصفه مدينته ومسقط رأسه فينيسيا، البندقية، فإن بولو يجيبه:"في كل حين أصف فيه مدينة فإنني أقول شيئاً ما عن البندقية".
كان الإمبراطور الصيني دائماً ما يريد التعرفَ على صورة مدن إمبراطوريته وقد توسعت وامتدت وذلك من خلال كثير من التجار والرحالة الذين يفدون إلى إيوانه من بعدما يزورون تلك المدن لمقاصد شتى ويتعرفون عليها، لكن مع ماركو بول كان يريد الوقوف على صورٍ أخرى لمدن أخرى، إنها مدن الخيال، رؤية ما لا يراه الآخرون في المدينة، فاستعان من أجل ذلك بصديقه الإيطالي الرحالة الذي سلك مرةً طريق الحرير فاستكشف ثقافات وتقاليد وطبيعة هذا العالم الآسيوي الغامض حينها بالنسبة للأوربيين حتى بلغ البلاط الإمبراطوري الصيني في زمن كوبلاي خان.
في الواقع فإن ماركو بولو ظل مدوّناً لكل ما تعرّف عليه في المدن التي مرَّ بها أو عاش فيها خلال سنوات إقامته الآسيوية، وقد نافت على السبعة عشر عاماً في القرن الثالث عشر، وظفرَ من هذه الرحلة بكتاب مهم ألفه فكان مبكراً في مجاله وقد تعرّف من خلاله الأوربيون على عالم آسيا. لكن في رواية (مدن لا مرئية)، المنشورة في سبعينيات القرن العشرين، كان ماركو بولو متأملاً عقلياً ووجدانياً في ابتكار مدن الخيال كما هيأها له الأدبُ عبر إيتالو كالفينو.
الأدب منتج دائم، أدبياً، أو معيد لإنتاج الشخصيات والأماكن والأشياء. 
هذه الكائنات والموجودات تكون في نصوص الأدب نتاجاً لخيال وفكر وتأمل الأديب.
وفي الغالب يكون البشر حاضرين في نصوص الأدب، لكن ما يحضر في هذه النصوص هو الطبيعة الداخلية للمرء لا هيكله، هو العمق اللا مرئي، وهو عمق يتشارك في صنع هويته وقيمته الشخصُ المرئي نفسه من جانب، بما يكون فيه ملهماً، والشخص الرائي، الكاتب بما يرى فيه ويعبّر عنه، من جانب آخر.. فهذه طبيعة متخيلة أو متصوَّرة بموجب ما يستبصره الكاتب. ماركو بولو في (مدن لا مرئية) هو نسخة ماركو بولو منظوراً إليها برؤية كالفينو في هذا العمل الأدبي الاستثنائي. وكالفينو يشبّه:"الأدب بالعين التي تستطيع أن تبصر أبعد من نطاق الطيف"، وهكذا هو حال المدن والأماكن والأشياء في نصوص الأدب، حين يكون الأدب استثنائياً فعلاً.
لكن الأشخاص والأماكن لهم قدرتهم القادرة على توجيه الأدب والفن كلما حضروا في نصوصهما. إنهم يحضرون في هذه النصوص بكيفيات أخرى هي غير الكيفية التي يحضرون بها، مؤثِّرين، في حياة وأذهان الآخرين من غير الأدباء. لم يكن ماركو بولو أول رحالة وتاجر غربي يكتشف الشرق وآسيا، لكن أثره كان أعمق ممن سبقه من مكتشفين وذلك من خلال الطبيعة التي رأى بها الشرق وآسيا، وأيضاً عبر ما خلفه من أثر مدوَّن عن رحلته (كتابه المعروف باسمه ــ كتاب ماركو بولو ــ أو باسم روائع العالم). كان ماركو بولو وكتابه ملهماً للكثير من المستكشفين الغربيين ومحفزاً لهم في رحلاتهم نحو الشرق الغامض والغريب، 
ومن بين هؤلاء المغامرين كريستوف كولمبس. 
وهذا نمط عملي من الحضور والتأثير يختلف عن الوظيفة الروحية التي يكون حاضراً بموجبها بعمل أدبي.
كتاب (مدن لا مرئية) يخلق محاورة ما بين الإمبراطور الشرقي والرحالة الغربي. وبهذه المحاورة يعمد المؤلف (إيتالو كالفينو) إلى استثمار طاقة الشعر، من حيث ما يتيحه الشعر من قدرة على التخيل والهيام، وذلك كلما كانت الرواية بصدد التعبير عن مدينة لا يريد كالفينو، من خلال بولو، الاكتفاء بوصف هياكلها وما يطفو منها وإنما النفاذ إلى روحها، إلى ما هو غير مرئي منها.
بهذا تحضر فينيسيا، مسقط رأس ماركو بولو ومدينته الفعلية، في كل حين يصف فيه مدينة من المدن اللا مرئية.
لا يستطيع المرء التحرر من ألفة المكان الأول مثلما لا يستطيع التحرر تماماً من التاريخ.
في الغالب تنصرف أذهان وخيالات المسافر، كلما كان أكثر حساسية وأشد انتباهاً، إلى تحري المقاربات ما بين مكانه والمكان الذي يكون فيه زائراً للمرة الأولى، إنه يتحرى عن صورة مدينته ما بين الصور المتغيرة والكثيرة التي تقدمها المدن عن نفسها. في أحيان كثيرة ترسخ في الأذهان صور تظل مستقرة في جانب من وجدان المرء أزاء مدينته، وهذه صورة تظل عصية على المحو حتى وإن محتها في الواقع الظروف وتغيراتها. وهذه صورة لا تقدمها الشواخص والهياكل فحسب، الأهم من هذه الهياكل هو الجوهر اللا مرئي للمدينة، روحها العصية على الزوال، القيم التي يطفو على أعماقها ذلك الهيكل المتغير للمدن. ما كان يعنيه كالفينو، على لسان بطله ماركو فالدو، هو هذا الجوهر الحي العميق الذي يتقاسم صنعه الطرفان؛ المكان، ووجدان المنشغل بالمكان. إنه جوهر قد لا يمسك به امرؤ آخر حتى وإن أفنى حياته في مدينته، فالمدن هي ما تتركه فينا من أثر نتشاطر وإياها في صنعه وإدامته بوجداننا، إنها قدرة الأدب على رؤية ما لا يُرى. ألم يشبه كالفينو الأدبَ بالعين التي تستطيع أن تبصر أبعد من نطاق الطيف؟