هل يمكن أن تنبثق شخصيّة الديكتاتور فجأةً في مجتمع ما من دون مقدمات وعوامل، أم هل يمكن أن تكون طبيعة المجتمع هي البيئة الصالحة لنمو تقديس الزعماء السياسيين وتأليههم، فضلًا عن الاستماتة من أجلهم ومن أجل أهدافهم الدنيوية، ما العوامل التي تقف وراء ظهور الرجل الاستثنائي (السوبر مان)، وهل للفكر الأسطوري دورٌ في توجيه النزعة الماديّة التي تؤصل نزعة اكتساب الكاريزما محاكاةً للآلهة والأبطال الخرافيين،
هذه الأسئلة وغيرها الكثير مما يدور في الفكر ونحنُ نتصفح مؤلَفًا واحدًا، لم يتوقف عند الإجابة عن هذه الأسئلة فقط، بل تعداها إلى الوقوف عند كلِّ نقطة يلمسُ فيها إشكالًا والتباسًا فيحلّل ما يستحق التحليل منها ويحيل على المصادر للاستزادة منها، أو يتتبع أصول ما كان يشكل ظاهرةً اجتماعيّة عامةً.
أيُّ كتابٍ بحجم كتاب (تقديس الزعامة.. دراسة في ظاهرة الكاريزما السياسية) لا يمكن أن يُترك على رفوف المكتبة من دون أن يغريك عنوانه بتلمسه والبدء بتصفحه ثمَّ الدخول في عوالمه والذوبان في مطالعته بدقة متناهية رضوخا تحت سماء القراءة المُنتِجة، والتبحر به بقراءة دقيقة متواصلة، فخيوط نسيجه متشابكة ومترابطة مع بعضها، إذا فقدت أحد تلك الخيوط فعليكَ إذن أن ترجع إلى نقطة الصفر مرةً أخرى، وأقصد هنا بالحجم، الحجم الماديّ والذي بلغ 500 صفحة تقريبًا، والحجم العلميّ الذي احتوى على كمٍ كبير من المعلومات عن موضوعة الآليات التي تتم من خلالها صناعة الديكتاتور في المجتمع العربيّ ودول العالم الثالث، وعلاقة الديمقراطيّات الناشئة وطبيعة الأنظمة السياسيّة بوجود الحاكم المستبد والمغتصِب للسلطة والهروب بها من دون اللجوء لوسائل التداول
السلميّ لها.
ويبدو بأنَّ مؤلف هذه الموسوعة العلميّة الدكتور «ثامر عبّاس» لم يدخر أي جهدٍ إلّا وبذلهُ فيه، فلم يترك معلومةً تخص الموضوع ولو بإشارة أحيانًا إلّا ونجده قد وظّفها توظيفًا علميًا سليمًا يسند الأدلةَ التي يحتاجها للبرهنة بأنَّ ظاهرة (الكاريزما السياسية) لم تكن صدفةً، أو إنّها لم تعد كذلكَ على الأقل بالوقت الحاضر وكما يعتقد الآخرون، بل إن هناك أسسًا فلسفيّة ومقولات ثقافيّة عديدة تقف متوارية تحت السطح، وقد تكون غائرةً عميقًا في بنية المجتمع ولا يمكن مشاهدتها بسهولة في بعض الأحيان، والمشكلة العظمى في الأمر كلّه، تكمن في تجلّيات المقدّس والتباسه أحيانًا بالمدنس، ودور التدين الشعبيّ في ظهور الشخصيّة الزعيميّة والولاء المطلق لها.
الكتابة عن كلِّ الأشياء التي لها مساس بالدين والسياسة وبالمقدّس الدينيّ وربطها بالأنثروبولوجيا ورطة معرفيّة ثقيلة، تجعل من الخائض فيها كالسائر في حقل الألغام، قد يذهب نتيجة الضغط على المكان الخطأ في الزمان الخطأ.
يبحث مؤلف هذا الكتاب جذور ظاهرة سطوع الزعيم المقدّس وتجلّياته في دائرة كونيّة معينة، ويبحث في آليات خلق الضد النوعيّ للقائد والقائد الضرورة والزعيم الأوحد والقائد الملِهم شعبه أبجديات النضال والوطنيّة، ويربط ذلكَ عن طريق علاقة السيسيولوجيا باللغة والرمز والعلامة.