د.عمار ابراهيم الياسري
بين شفاهية (سجاح التميمية) وتدوينية (فرجينيا وولف) الإنكليزية ثمة مفارقة، الأولى حاولت تقويض السرديات الكبرى المهيمنة على النسق اللاهوتي شفاهياً، والثانية حاولت تقويض بطرياركية الفحولة تدوينياً، خطابية (سجاح) المسجوعة "أعدوا الركاب واستعدوا للنهاب ثم أغيروا على الرباب" قوضت المفهوم لكنها لم تخلخل الفحولة بعد زيجتها من (مسيلمة) ثم توبتها ثم موتها، في حين ترى (فرجينيا) أن المرايا التي تحيط بالذكورة هي من تضخم صورتها المستبدة وتقترح تهشيمها حسب قولها لو حَرَمنا الرّجل منها لربَّما مات مثلما يموت مدمن الكوكايين عند حرمانه منه، وبقيت تنظر لمفهومها حتى رحيلها منتحرة، إذن نحن قبالة مفهومين نسويين مفترقين مفاهيميا لكنهما نقطتا شروع ووصول ربما عُدتا من مهادات الخطاب النسوي الراديكالي، والمفارقة تكمن في خطاب الأولى لمريديها من الرجال والثانية لمريداتها من النساء، فالأولى أرادت إعادة تشكيل النسق السياسي الذي يحيط بها، والثانية أرادت تقويض خطاب الذكورة ثم الانفصال عنه.
إن الخطاب النسوي تنوع إلى عنوانات مختلفة منها النسوية الوجودية والليبرالية والراديكالية، وقد تشاكلت النسوية الراديكالية بشكل كبير مع الطروحات الفلسفية لفلاسفة ما بعد الحداثة، فموت السلطة أو الأب أو (البطرياركية) المتمثلة بموت الإله كان مائزاً في فلسفة (نيتشه) ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يبقى تحت وصاية القيم التي أدت إلى عقلانية ذات فكر واحد متسيد دوماً، وهو بذلك يؤسس لفلسفة تعمل على تشكيل نسق انسانوي مغاير
ومتسيد.
وهذا ما ذهب اليه الفيلسوف الألماني (نيتشه) حينما قال لقد انهارت القيم القديمة وهذا أمر غير مأسوف عليه لنصنع لأنفسنا قيماً جديدة أخرى غير القيم (الميتافيزيقية) السائدة، والحال ذاته ينطبق على طروحات مواطنه الألماني (هيدغر) الذي حاول أن يسيد المهمش الجسدي على مدى التمرحلات الفكرية للفلسفة من خلال ضرب مركزية (الميتافيزيقيا) والأخلاق والقيم و(اللوغوس) التي كانت متسيدة وفق محمولات لاهوتية او ما ورائية، في حين ذهب الفيلسوف الفرنسي (دريدا) في قراءته التفكيكية إلى تقويض كل ما جاء به الفكر الغربي من ثنائيات مثل (العقل – الجنون)، (المرأة – الرجل)، (المركز – الهامش)، (الحضور – الغياب)، وهنا نلحظ ايضا أن سلطوية المركز المتشكلة علاماتياً مع احالات تلك الثنائيات تم تفكيكها وتشظيها ومن ثم إعادة تركيبها على وفق منظومة علاماتية متهتكة علائقياً يشتغل فيها النص التفكيكي على ضرب الاقانيم الثلاثة (لوغوس، نظام، كوجيتو) المترسخة في المخيال الفلسفي عبر تحولاته الفكرية، أما مواطنه (فوكو) فقد حلل الجنوسة بعد أن تحررت من قبضة التقاليد و(التابوهات).
إن الحديث عن الخطاب النسوي الراديكالي لا يتم بمعزل عن الطروحات الفلسفية السالفة من جهة وقراءة الجسد نسوياً من جهة أخرى، فالجسد هو الذي يستنطق المتغيرات الفكرية للخطاب المغاير، والوعي النسوي بحقيقة مكونات الجسد (البايولوجية) ومتغيراته النفسية هو مفتاح البنية النصوصية للنص الجديد، وهذا ما أتضح جليا في مقالة الناقدة النسوية الفرنسية (هيلين سيسكوس) "ضحكة ميدوزا" التي حثت فيها النساء على اكتشاف الجسد ومتغيراته وانثيالاته وإظهار ما حاول الخطاب الذكوري إخفاءه ثم صوغه في نصوصهن التي لا تشبه إلا نفسها، فالوعي بالجسد هو الوعي بالذات الأنثوية التي غيّبت من المركزية الذكورية، والمعرفة بالجسد تتطلب معرفة بالصياغات اللغوية او الصورية التي تستطيع أن تستنطق خباياه المليئة بالأسرار، في حين ذهبت الناقدة الاميركية (ألين مور) إلى الميل الغريزي الفطري للمرأة تجاه بنية لغوية بصرية محددة، وهذه البنية الخطابية لا تنفك من عالمهن الجسدي والاجتماعي الذي تعرض إلى تعليب ذكوري أفقده كينونته، ولكن هذا لا يمنع من ظهور تمثلاته السردية التي تجسدت من خلال صورة الطائر السجين في العديد من السرديات النسوية، فيما كانت زميلتها الفيلسوفة الاميركية (ماري دالي) اكثر تطرفا في كتابها "ماوراء الأب" الذي تضمن طروحات تتهم البطرياركية الأبوية فيها بسرقة اللغة من الأدبيات النسوية كما يرد ذلك في سفر التكوين، ولابد من استعادة هذا الخطاب المسروق وإعادة تشذيبه بعد أن شوهته الذكورة.
وقد تبين ذلك جليا في نصوص عديدة مثل كتاب "الجنس الثاني" للفرنسية (سيمون دي بوفوار) وصولاً إلى روايات المصرية (نوال السعداوي) "سقوط الامام" و"الحب في زمن النفط" و"موت الرجل الوحيد على الأرض"، وبصريا من فيلم "سافرجيت" للانكليزية (سارة غافرون) وصولاً إلى "سكر بنات" للبنانية (نادين لبكي).