نهى الصراف
اكتسب الكاتب الأميركي سكوت فيتزجيرالد، (1896-1940) شهرته الواسعة من خلال رواياته التي صنفته كواحد من أهم الكتاب الأميركيين في القرن العشرين، إلا أنه في المقابل كان من أكثر كتاب القصة القصيرة موهبة.. تجلت موهبته هذه بصورة واضحة في قصته الخالدة «الحالة المحيرة لبنجامين بتن»؛ تلك القطعة الأدبيَّة المتفردة التي كانت هجاءً متصلاً لمرحلة شيخوخة الإنسان، وهي بالتأكيد واحدة من الحكايات الخياليَّة التي لا يمكن نسيانها، القصة التي تحولت في ما بعد إلى فيلم بالاسم ذاته من إخراج ديفيد فينشر العام 2008 وفاز بثلاث جوائز أوسكار، عدت إنجاز مضافاً لصاحب (غاتسبي العظيم) وترجمة لانتمائه لمرحلة «الجيل الضائع» أو «عصر الجاز»، كما كان يطلق على فترة العشرينيات من القرن الماضي وهي مرحلة فاصلة في التاريخ الأميركي.
نشرت القصة في مجلة كوليي الأميركية الأسبوعية، ثم جمعت في كتاب فيتزجيرالد «حكايات من زمن الجاز»، وهي مجموعة قصصية مكونة من إحدى عشرة قصة قصيرة صدرت في العام 1922 وكانت باقة من أفضل قصصه المنشورة. من المعروف أنَّ الكاتب الأميركي كان يجيد فن الرواية كخيار مفضل في الكتابة، لكنه بحسب نقاد، كتب القصص القصيرة والسيناريوهات للسينما كطريقة أسرع من أجل الحصول على المال؛ إذ إنه عانى في مرحلة ما من حياته من مصاعب مادية، فضلاً عن إدمانه الكحول. رغم ذلك، تميزت أغلب قصصه القصيرة بسحر العبارة الرشيقة الصادمة في بعض الأحيان لكنها عبارة مثقلة بالرؤية الراجحة المتأملة.
«في بطانية بيضاء ضخمة لف، وقد حشر جزئياً في واحد من المهود رجل عجوز يبلغ على ما يبدو نحو سبعين سنة من العمر، كان شعره الخفيف تقريباً أبيض ومن ذقنه تتدلى لحية طويلة بلون الدخان، تتماوج بعبثية ذهاباً وإياباً، يحركها النسيم القادم من النافذة. حدق العجوز في وجه السيد بتن بعينين باهتتين كئيبتين يختبئ فيهما تساؤل محير.. ثم فجأة تحدث بصوت قديم متصدع قائلاً: هل أنت والدي؟».
هكذا تبدأ أحداث القصة صيف العام 1860 وهو يوم ولادة الطفل العجيب، الابن الأول لعائلة بتن.
لماذا تعدُّ حالة بنجامين محيرة؟ لأنها حالة فريدة من نوعها حدثت لرجلٍ واحدٍ ولا يمكن أنْ تتكرر بالطبع، فهي تتبع أقصى مديات يمكن أنْ تصلها مخيلة كاتب يصرّ على أنْ يشرك الآخرين في محاولة الإجابة عن سؤال كبير، عن الزمن الذي يفتك بالإنسان ليتركه بلا إرادة تقريباً: كيف يمكن لإنسان أنْ يمرّ بكل هذا؛ أنْ يتقدم في العمر باتجاه معاكس، يولد عجوزاً وشيخاً كبيراً في السن ثم يعبر حياته بمراحل معاكسة حتى يبلغ مرحلة الطفولة فيموت في مهده آخر الأمر في صورة طفل حديث الولادة. هذه اللعنة طاردت بطل القصة وهو يعيش صراعات الحياة المتعارف عليها مضافاً إليها أنْ يكون هو نفسه دخيلاً على حياة الآخرين، فبينما يكبر أصحابه وأهله باتجاه واحد يذهب جسده في اتجاه آخر تماماً؛ يعيش طفولته في جسد شيخ ويعيش كهولته في روح طفل وعندما يكون المرء غير متناغم مع مقاييس مجتمعه وأعرافه فإنه سيعامل بشكل مختلف، فما أشد بؤسه!
كان بنجامين يمضي في أحداث حياته التي تسير عكس اتجاهها وكأنه غير مبال، ثم ينظر فجأة في المرآة فيتملكه القلق.
«.. يبدو الآن وكأنه رجل في الثلاثين، وبدلاً من أنْ يكون مسروراً شعر بنوعٍ من عدم الارتياح، فقد كان يصغر، وكان يأمل حتى الآن أنه بمجرد أنْ يصل إلى الحالة الجسديَّة التي تناسب عمره الحقيقي، ستتوقف هذه الظاهرة الغريبة التي تعرض لها منذ ولادته. وارتجف جسده، إذ بدا له مصيره فظيعاً، ولا يصدق..».
كان الشاب ثم المراهق ثم الطفل بنجامين يعاني من انتكاسة عمرية فريدة، فهو لا يقفز إلى أمام بل يسير بالتدريج يوماً أثر يوم وعندما يبلغ السادسة والخمسين من عمره يصبح رفيقاً مناسباً لحفيده ذي الخامسة؛ بعد مرور عامٍ آخر ينتقل الحفيد إلى الصف الأول بينما يبقى الجد بنيامين بتن في الروضة.
«.. وفي بعض الأحيان عندما كان الصغار يتحدثون عما سيفعلونه عندما يكبرون، كان يعبر وجهه ظل من الحزن، إذ كان يدرك على نحو طفولي بريء أنه ليس بإمكانه أبداً مشاركتهم».
تجسد هذه القصة الغريبة والمؤرقة، البصيرة الاجتماعية الحادة التي كان سكوت فيتزجيرالد يتمتع بها، وهي من وضعته – بالتالي- في هذه المكانة المرموقة من تاريخ الأدب الأميركي.
يبدو أنَّ النقاد بدورهم، كانت لهم حيرتهم الخاصة: هل النمو لسن أصغر بالضرورة أكثر بهجة من التقدم في العمر؟.. يقال بأنها الفكرة ذاتها التي ألحت على فيتزجيرالد ودفعته لكتابتها بهذه الصورة العجيبة، بوحي من ملاحظة مستوحاة من الكاتب الأميركي مارك توين مفادها، أن من المؤسف أنْ يأتي أفضل فصل في حياة الإنسان في البداية وأسوأ فصل في النهاية. مع ذلك، ليس هناك من داعٍ لاستخدام المنطق في محاولة للالتفاف على هذا الحدث العابر للعلم والمنطق، إذ إنه المستحيل بعينه لا لاستحالة حدوثه إنما لأنه فريد بصورة مفزعة ولم يخبره إنسان من قبل سوى بطل فيتزجيرالد سيئ الحظ.