11 قرناً على انطلاق بعثة ابن فضلان من بغداد إلى شمالي أوروبا
منصة
2021/01/16
+A
-A
حسين محمد عجيل
في يوم الاثنين 21 حزيران من هذا العام، ستحل على بلادنا ذكرى مرور 11 قرناً على انطلاق الدبلوماسي والرحالة البغدادي أحمد بن فضلان وبعثته الرسميّة من بغداد، وبأمر الخليفة العباسي المقتدر بالله، إلى بلاد الصقالبة الواقعة في شمالي أوروبا (حالياً في جمهورية تتارستان بروسيا الاتحادية)، وهي مأثرة حضارية فريدة، وحدث تاريخي نادر، يستحق من الدولة العراقيّة بمؤسساتها الثقافيّة والعلميّة أن تسعى للاحتفاء به وإحيائه، لما يمثله من قيمة إنسانيّة، وما يرمز له من دلالات على عراقة تاريخ هذا الوطن، ودوره المشهود في التواصل والحوار الحضاري مع الأمم الأخرى، وغنى إسهامه في التنوير العلمي، وترسيخ قيم السلام بين الشعوب، والتعريف بثقافاتها.
ففي مثل ذلك اليوم قبل 1100 عام، وبالتحديد يوم الخميس 21 حزيران سنة 921 للميلاد (11 صفر من سنة 309 للهجرة)، انطلق أحمد بن فضلان بن العبّاس بن راشد بن حمّاد، في رحلة وبعثة رسميّة، من مدينة السّلام بغداد متوجّها إلى شماليّ أوروبا، حيث عاصمة مملكة الصقالبة؛ مدينة بُلغار الواقعة على نهر الفولغا (بروسيا الاتحاديّة اليوم، قرب مدينة قازان جنوب موسكو)، وهي بعثة قدّر لها أن تغيّر تاريخ تلك الأرض وأحوال سكّانها، حين نقلت إليهم قيم الحضارة العربيّة الإسلاميّة التي مثّلتها حاضرتُها الكبرى بغداد في أوج ازدهارها.
كيف نجت مخطوطة الرحلة؟
وثّق ابن فضلان تفاصيل بعثته ورحلته تلك غير المسبوقة، في كتابٍ أدبيٍّ غنيٍّ بالتقاطاته النّادرة وبمشاهداته العيانيّة، ومكتنز بوصف أحوال الناس في كلّ أرضٍ اخترقها، وأوضاعهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ومستوى ترقّي الشعوب والممالك التي مرّ بها، وحافل بالمعلومات الجغرافيّة والاثنوغرافيّة التي انفرد بتسجيلها، وكان من حسن حظّ العراق وشعوب البلدان التي كانت على خطّ مسير البعثة، والإنسانيّة كلّها، أنّ نقلت بعضُ المصادر القديمة نصوصاً واسعة من الرحلة، ثمّ نجت مخطوطة هذا الكتاب النفيس، وإن كانت ناقصة النهاية، من عوامل الطبيعة والاندثار طوال أكثر من ألف عام، حين عُثر عليها في مدينة مشهد بإيران سنة 1923، بعد أن سقطت منها أوراق غير معلومة العدد توثّق رحلة العودة إلى بغداد.
حظيت مخطوطة الكتاب باهتمام المؤرّخين والباحثين الأجانب قبل العرب، وتُرجمت إلى كثير من لغات العالم، ثمّ حُقّقت نسختها العربيّة وصدرت عن مجمع اللّغة العربيّة بدمشق سنة 1959، ونُشرت في أكثر من طبعة (من المؤسف أنّها نُشرت كلّها خارج العراق)، وعُدّت “رحلة ابن فضلان”، المصدر الأندر والأهمّ والأقدم الذي أرّخ لحياة الروس وشعوب آسيا الوسطى وشمال شرقيّ أوروبا، وحفظ تاريخهم وعاداتهم، في وقت لم يكن معظمها قد تعلّم التدوين وكتابة التاريخ.
من دجلة إلى ضفاف نهر الفولغا
انطلق ابن فضلان من بغداد مع أعضاء البعثة من رجال دولة ومساعدين، مشرفاً على المعلّمين والمرشدين، وحاملاً إلى “ألموش بن يلطوار” ملك الصّقالبة (وهي مملكة تاريخيّة أزالها المغول في القرن 13 للميلاد) رسالةَ الخليفة العبّاسيّ المقتدر بالله وهداياه، في رحلة طويلة وشديدة الخطورة، استغرقت نحو 11 شهراً، قطع فيها أعضاءُ البعثة آلافَ الأميال بين الوديان والجبال والبراري والمفازات والأنهار الكبيرة، مارّين بكبرى مدن شرقيّ العالم الإسلاميّ وممالكه وأقاليمه وحواضره الزّاهرة: كرمانشاه، همذان، الري، سمنان، دامغان، نيسابور، سرخس، آمل، مرو، بلاد ما وراء النهر، بخارى، خوارزم، ليخترقوا بعدها أراضيَ وقفاراً ممتدة وسهوباً ثلجيّة تقطنها قبائل الترك الوثنيّة آنذاك، ثمّ ليجوسوا خلالَ مجاهل جنوبيّ روسيا، عابرين أنهاراً كبرى خطرةً ومناطقَ شاسعةً يغطيها الجليد، مختلطين بشعوبٍ وقبائلَ وممالكَ متباينةِ الثقافات والعادات والمعتقدات، حتّى وصل أعضاءُ البعثة إلى مقصدهم القصيّ في أرض مملكة الصّقالبة على نهر الفولغا الشّهير، يوم الأحد 12 أيّار من سنة 922م (12 محرّم من سنة 310هـ).
وبمراجعة خرائط الدّول الحديثة، يظهر أنّ مسار البعثة اخترق أراضيَ ست دول، هي: العراق، إيران، تركمانستان، أوزبكستان، كازاخستان، وروسيا الاتحاديّة، فضلاً عن جمهوريّتين في الاتحاد الروسيّ حالياً، هما: جمهورية باشقورتوستان التي أطلق ابن فضلان على سكّانها في رحلته تسمية (الباشغرد)، وجمهورية تتارستان التي تقع في أراضيها حاليّاً مدينة بُلغار على مسافة قريبة من عاصمتها قازان ثالث أكبر مدن روسيا الاتحاديّة، وكان الصقالبة يسكنون هذه الأراضي آنذاك قبل أن تصبح موطن شعب تتارستان.
جمهورية تتارستان
تحتفي بابن فضلان
ممّا يجعل الاحتفاء العراقيّ بهذا الحدث التاريخيّ أكثر من ضرورة وألزم من واجب، أنّ شعب جمهورية تتارستان يحتفل سنويّاً بيوم وصول ابن فضلان وبعثته الرّسميّة إلى أطلال عاصمته التّاريخيّة بُلغار، فقد اعتاد أبناء شعب تتارستان وأسلافُه الصقالبة البُلغار، أن يحجّوا حاملين الرايات إلى موقع مدينة بُلغار البائدة من مناطقهم القريبة والبعيدة في ذلك اليوم من كلّ عام، في مسيرة جماعيّة راجلة.
وفي سنة 2010، قرّر برلمان تتارستان عدّ يوم وصول ابن فضلان للعاصمة القديمة بلغار (في 12 أيّار من كلّ عام) اليومَ الوطنيَّ لهذه الجمهوريّة ذات الأغلبيّة الإسلاميّة داخل الاتحاد الروسيّ، وقد سعت تتارستان في العقدين الأخيرين لإحياء مدينة بُلغار، وصرفت 100 مليون دولار في مشروع ترميم أو إعادة بناء مساجدها ومآذنها التاريخيّة، وفي إقامة متحف كبير يضمّ المصاحف والمخطوطات واللقى الأثرية، تتوسّطه فسيفساء كبيرة نُفّذت في إيطاليا تمثّل مشهد وصول بعثة ابن فضلان ولقائه بالملك، ولحظة قراءته عليه كتاب الخليفة العبّاسيّ.
هل سيحتفي العراق برحّالته العظيم؟
إنّ العراق أولى من بلدان العالم الأخرى للمبادرة إلى الاحتفاء بإحياء ذكرى هذا الرّحالة والدبلوماسيّ البغداديّ بمناسبة مرور 11 قرناً على انطلاقته من بغداد، ولأنّ وزارة الثّقافة هي الجهة الرّسمية المنوط بها رعاية مثل هذه النّشاطات، فقد كنتُ- أنا المترقّب لهذا الحدث التاريخيّ والحضاريّ الكبير- استبقتُ الأحداثَ وقدّمت لوزير الثقافة السابق الدكتورعبد الأمير الحمداني يوم 21/ 6/ 2019، مشروعاً للاحتفاء الوطنيّ بذكراها قبل حلولها بسنتين، ليمكن تهيئة كل المتطلّبات التنظيميّة بنجاح، مقترحاً تنظيم عدّة فعاليات ترعاها الوزارة بالتنسيق مع وزارات الثّقافة في الدول الخمس التي مرّت بها البعثة فضلاً عن الجمهوريّتين في روسيا الاتحاديّة، بمفردات تليق بفرادتها وبسمعة البلاد وبتطلّعات نخبها الثّقافيّة، وكنت آمل أن يلقى مشروعي الاهتمام، وأن تتبناه الوزارة وتُغنيه، وأن تسعى لتأمين تخصيصات ماليّة مناسبة له في موازنتها لسنة 2020 وسنة 2021، لكن سرعان ما تبدّد معظم هذه الآمال، فقد ظهر لي أنّ الوزارة- في صيف 2019- لم تكن بمستوى سقف توقّعاتي غير المرتفع أصلاً، فمن خلال مراجعتين مرهقتين وتواصل هاتفيّ شديد البخل، كانت النتيجة صادمة، حين تبيّن لي أنّ ثمّة شللاً غريباً وانقطاعاً في التواصل بين أقسام الوزارة، ومعظمها في مبنى واحد، وإنّ عليّ بعد أن قدّمت مشروعي المتكامل، أن أتولّى شخصيّاً التواصلَ مع إدارات هذه الأقسام لإقناعها بتنفيذ ما همّش به السيّد الوزير باقتضاب شديد وبرموز وعلامات اختُلف في تفسيرها، على ملخّص لمشروعي، وعلى الرغم من غرابة مثل هذه الأمر، وعدم اتساقه مع أيّ نظام إداريّ في العالم، حاولتُ أن أنهض بتلك المهمّة على أمل أن يتحقّق المشروع قبل أن يداهمنا الوقت وتضيع هذه الفرصة التاريخيّة بسبب التكاسل والتسيّب والفشل الإداريّ، ولكن بان لي أنّ دون هذا المطلب خرط المستحيل، وكاد أن يتبدّد الأملُ نهائيّاً بعد أن داهمت البلادَ العالمَ جائحةُ كورونا ربيع العام المنقضي.
مفردات للاحتفاء
كنتُ اقترحتُ في المشروع المقدَّم لوزارة الثقافة في حزيران 2019، تسع مفردات رئيسة لإحياء المناسبة، أولاها أن تخاطب الوزارةُ منظّمةَ اليونسكو، لإدراج يوم انطلاق البعثة ضمن المناسبات التي تحتفي بها المنظمة الدولية سنة 2021، داعياً الوزارة إلى تشكيل لجنة من الباحثين المشهود لهم بالرصانة، تُعنى بتتبّع مناسبات التاريخ العراقيّ، ليمكن التخطيط المسبق للاحتفاء بها، والتنسيق مع اليونسكو لإدراجها ضمن مناسباتها، تعريفاً للعالم بالمنجز الحضاريّ العراقيّ عبر العصور، ومن بين المقترحات: الإعلان عن مسابقة لتنفيذ نصب يشمخ بإحدى ساحات بغداد يخلّد انطلاق البعثة، أو أن يُقام وسط مدينة بسماية في النّهروان وهو موضع المحطّة الأولى التي توقّفت عندها، وأن تقترح الوزارة على نظيراتها في الدول الخمس التي مرّت البعثة بها، إقامة تماثيل تخلّدها، تُنصب في مدن مرّ بها فعلاً.
واقترحتُ إقامة مؤتمر علميّ كبير ببغداد يشترك فيه مؤرّخون معنيّون بالبعثة-الرحلة من الدول الست، وكتّاب وباحثون في حقول إنسانيّة متعدّدة، وإصدار طبعة جديدة محقَّقة ومصوَّرة من الرحلة، وإنجاز فيلم وثائقيّ طويل يتتبّع مسارها من دجلة إلى ضفاف الفولغا في روسيا، يُعرض في يوم إحياء الذكرى ببغداد بالتزامن مع عرضه في الدول الخمس.
واقترحتُ أيضاً أن تستضيف بغدادُ مهرجانا شعريّاً دوليّاً، ومعرضاً تشكيليّاً، وآخر لفنّ الفوتوغراف، يشارك فيها شعراء وفنّانون ومصوّرون- على التوالي- من الدول الست، ويكون محورها رحلة ابن فضلان، وتستوحى الأعمالُ المشاركة فيها ممّا توفّرت عليه تلك الرّحلة وكشفت عنه في أفقها الإنسانيّ من معانٍ وإيحاءات ودلالات، على أن تُمنح للفائزين في هذه الفعّاليّات جوائز باسم ابن فضلان.
رحلة معاصرة على خطى ابن فضلان
ودعوتُ إلى تنظيم رحلة معاصرة على خطى رحلة ابن فضلان ومسار بعثته، باستخدام وسائل نقل حديثة، يشارك فيها ستة رحّالة معروفين ومعنيّين بالجوانب الثقافيّة والتاريخيّة من الدول الست، ويجيدون أكثر من لغة، يرافق كلّاً منهم فريقٌ تلفزيونيٌّ ومصوّرٌ فوتوغرافيٌّ يوثّق محطّات الرحلة وتفاصيلها، مقترحاً اسم الرحّالة والشاعر العراقيّ المغترب باسم فرات ممثلاً للبلاد، على أن تنطلق من بغداد في يوم إقامة حفل إحياء الذكرى، وتصل إلى مبتغاها (مدينة بُلغار) في يوم وصول البعثة الأصليّة قبل 11 قرناً (أي يوم الخميس 12 أيار 2022)، وبالتزامن مع الحفل الشعبيّ السّنوي بهذه المناسبة الذي يحيه شعب البُلغار والتتار ومسلمو روسيا.
وأخيراً دعوتُ لإقامة مهرجان فنّي واستعراضيّ بهيج ببغداد يوم 21/ 6/ 2021، يُشارك فيه- فضلاً عن جمهور البغداديّين- المعنيّون بالمناسبة من النخب الثقافيّة والأكاديميّة، والمشاركون بالفعّاليّات، ويُدعى لحضوره وزراء ثقافة الدول الخمس والجمهوريتين الروسيّتين، مقترحاً أن يُجرى في موقع باب الظفريّة المعروف بالباب الوسطانيّ، فهو الباب الوحيد المتبقّي من أبواب سور بغداد العبّاسيّة، والفضاء المحيط به واسع جداً، ويصلح لإقامة مثل هذا المهرجان ونصب مسرح وحضور جمهور كبير، ويمكن أن يشهد المهرجان انطلاقة احتفاليّة تستعيد التاريخ للرحّالة الستة من تحت بوابة السور الكبيرة، وهم على ظهور ستة جِمال على نحو احتفائيّ، في كرنفال حضاريّ بغداديّ.
مسار ابن فضلان وطريق الحرير
إنّ من واجب وزارة الثقافة والسياحة والآثار، أن تفكّر على نحو جدّيّ في إحياء هذه المناسبة التاريخيّة بمفردات احتفاء لائقة، من التي سبق عرضها باقتضاب وغيرها، وبما يناسب ظروف البلاد تحت هذه الجائحة، وأن تبادر بإصدار طابع تذكاريّ يخلّد هذا الرحّالة وكتابه الفريد، ويمكنها أن تستدرك- في ظل إدارة وزيرها الجديد الدكتور حسن ناظم- ما فات، وتنظّم معظم هذه الفعّاليّات بعد انجلاء الجائحة قريباً، أو بمناسبة مرور 11 قرناً على وصول ابن فضلان إلى مقصده يوم 12 أيّار 2022، ومن أهمّ ما ينبغي على الوزارة في رأيي، أن تسعى لتحويل مسار رحلة البعثة بين بغداد وبُلغار، بمحطّات المدن التاريخيّة العظيمة التي اخترقتها، إلى مسار ومزار سياحيّ عالميّ، أشبه بطريق الحرير، وذلك يمكن أن يدرّ مدخولاتٍ ماليّةً ضخمةً عليها جميعاً، ويفتح آفاقاً لمزيد من الانفتاح الاجتماعيّ والثقافيّ والتعاون العلميّ والتكامل الاقتصاديّ بينها، وسيسهم تنظيم مثل هذه النشاطات الفنيّة والمسابقات والرحلة المعاصرة، بالتغطية الصحفيّة والإعلاميّة التي سترافقها، وما ستبثّه عنها بكثافة وسائلُ التواصل الاجتماعيّ المتعدّدة، في تحقيق هذا الهدف، ولعلّ من الأمور المشجّعة على هذا التعاون الثقافيّ مع الدول الخمس، أنّ للعراق حاليّاً علاقات جيّدة معها جميعاً، ومن شأن هذا التنسيق الثّقافيّ المشترك معها في إحياء هذا المناسبة أن يعزّز من تمتين هذه الصلات.
إنّ للعراق تجاربَ كثيرةً وكبيرةً للاحتفاء بمناسبات تاريخيّة مماثلة في العهود السابقة، فقد أحيى المهرجانَ الألفيّ لذكرى ابن سينا سنة 1951، وأحيا بمهرجانات كبرى ذكرى ألفيّات الفارابيّ والكنديّ والمتنبيّ وابن جنّيّ، ومرور 500 عام على ولادة فضولي البغداديّ، أفلا يستحقّ ابنُ فضلان إذن- الذي أُعجب القرّاءُ الأوربيّون بمغامرته الكبرى، بعد أن تُرجمت رحلته إلى معظم لغاتهم، وعرفت أجيالٌ جديدةٌ من كلّ القارات شيئاً من قصّته الحقيقيّة في فيلم هوليوديّ ضخم الانتاج وكثير الخيال- أن تحتفي به مدينته بغداد التي انطلق منها مستكشفاً المجهول قبل 11 قرناً؟