جواد علي كسار
أكبر مذكرات ضمّتها مكتبتي الشخصية، هي مذكرات السياسي المخضرم هنري كيسنجر، التي تقع في أربعة اجزاء كبيرة، ولا أظن أن سياسياً آخر دوّن مذكراته بما يزيد على هذا الرقم، سوى أكبر هاشمي رفسنجاني الرئيس الإيراني الأسبق.
ضمن لقاء مع وسائل الإعلام الإيرانية عام 1997م، أواخر مدّته الرئاسية الثانية والأخيرة، ذكر رفسنجاني أنه يتفرّغ لكتابة مذكراته، وإعادة صياغة خواطره وما كان دوّنه من ملاحظات يومية منتظمة، إزاء مختلف الوقائع والشؤون ذات الصلة ببلده والعالم. وفي عملية حسابية بسيطة قمتُ بها يومذاك، اكتشفتُ أن حجم هذه اليوميات قد يصل بعد إعادة الصياغة والتنظيم إلى عشرات المجلدات، بالتحديد إلى ما يناهز المائة مجلد!
الآن وبعد مرور ربع قرن على ذلك اللقاء وأربع سنوات على وفاته، إذ تمرّ هذه الأيام الذكرى الرابعة لرحيله، فقد صدر من مذكرات رفسنجاني المجلد العشرين، بعنوان: «انتقال السلطة» (800 صفحة من الحجم الكبير) تحت إشراف نجله محسن، الذي ذكر نصاً أننا بانتظار واحد وعشرين مجلداً آخر من هذه الذكريات، لتكون الحصيلة الأخيرة لكتب الذكريات وحدها مما تركه رفسنجاني بخطّ يده (41) مجلداً ضخماً!
لكن هذا الرقم الكبير بل المهول في مقاسات كتب المذكرات التي نعرفها، لا يعكس سوى جزء من حقيقة أكبر، لخصها محسن هاشمي الذي يشرف على المركز الخاص بتراث أبيه، عندما ذكر بأن ما أصدره المركز من آثار والده، بلغ الآن (100) مجلد، تشمل بالإضافة إلى ذكريات رفسنجاني بخطّ يده، خطبه في صلاة جمعة العاصمة، وكلماته في مختلف المناسبات، عدا (22) مجلداً طُبعت على نحو مستقل، تُمثل تفسيراً للقرآن الكريم، كان قد بدأه رفسنجاني في السجن أيام الشاه، وصدر بعد الثورة الإسلامية، بعنوان: «التفسير المرشد».
بإضافة المجلدات الواحد والعشرين المتبقية من المذكرات، سنكون أمام حصيلة نهائية تزيد على (120) مجلداً، ما يهمني من بينها هو المذكرات. فمن خلال متابعة الملف الإيراني، لاحظتُ أن مذكرات رفسنجاني تحوّلت بطابعها التوثيقي المعلوماتي وما تكشفه من أسرار وخفايا؛ تحوّلت إلى مرجع للجميع يستشهد بها على سواء مؤيّدوه ومعارضوه، وكلّ من يريد أن يقف على مسارات الأمور في إيران وملفاتها البارزة، خلال العقود الأربعة الماضية.
لقد عاش رفسنجاني في القمة في عصر الجمهورية الإسلامية، وتسنّم مواقع كبيرة؛ عضواً مؤثراً في مجلس قيادة الثورة، ورئيساً للبرلمان، وعضواً في اللجنة المركزية للحزب الجمهوري الإسلامي، ومسؤولاً عن ملف الحرب العراقية الإيرانية، ورئيساً للجمهورية، ورئيساً لمجمع تشخيص النظام، ونائب رئيس مجلس خبراء القيادة، وكلها مواقع منحت هاشمي فرصة استثنائية لمعرفة أسرار وخفايا السياسة الإيرانية، من أوسع الأبواب.
لكنَّ الأهمّ من ذلك برأيي، هي قدرته المشهودة على التقاط الأمور والتعامل معها بزاوية تختلف مع الآخرين غالباً، من خلال قدرات تحليلية مشهودة، جعلت من رفسنجاني رجلاً لكلّ المراحل.
أضف إلى ذلك هذا الإصرار على تدوين الخواطر والكتابة اليومية، على مدار أربعين سنة تقريباً، مع ما يتطلبه ذلك من جَلَد ومثابرة وحزم مع النفس ومصابرة على ذلك كله، وكأنه كان يخطّط لحياة أخرى بعد وفاته، وأنْ يعيش من خلال هذه الذكريات.