د. عبدالجبار الرفاعي
كل بداية للتجديد في عالم الإسلام تتجاهل الدين تخطئ الطريق. الدين مكون أنطولوجي للهوية الوجودية للكائن البشري، وبنية لاشعورية عميقة غاطسة في شخصية الفرد والمجتمع. فهم الدين وكيفية قراءة نصوصه يرسم الرؤية للعالم، وفي ضوء ذلك يتحقق نمط وجود الإنسان، ويتشكل نظام انتاجه المعنى لحياته، ويتكون فهمه لذاته وتقديره لها، وتتحدد مكانته في الواقع الذي يعيش فيه، وتبتني صلاته بما حوله، وطريقة إدارة شؤون حياته في المجتمع الذي يعيش فيه، وموقفه من الآخر، وأسلوب تعاطيه مع المختلف في المعتقد والرأي والموقف، وقدرته على إدارة اختلافاته وتسوية مشكلاته بوسائل سلمية، خارج أدوات العنف الرمزي واللغوي والجسدي.
فهمُ الدين وكيفيةُ قراءة نصوصه من أهمِّ العوامل الفاعلة في تحولات السياسة والاقتصاد والثقافة والعلاقات في حياة المجتمعات. الدينُ هو الحبل السري الذي يتغذى منه تكوينُ الفرد، وتقاليدُ المجتمع وأعرافُه وقيمُه وهويتُه، لكن لم يهتم أكثرُ من يكتبون عن الدين في بلادنا بالأثرِ المهم لاختلافِ طرق فهم الدين وكيفيةِ قراءة نصوصه في تكوين الفرد والمجتمع، ولم يُسلَّط الضوءُ على دورِه في رفد اللاشعور الجمعي وترسيخه، وأثرِه في تشكيل شخصية الفرد في طفولته، وتوجيهِ سلوكه وبناء مواقفه في مختلف مراحل حياته.
الدينُ يمكن أن يكون عاملًا أساسيًا في البناء، كما يمكن أن يكون عاملًا أساسيًا في الهدم، ويعود الاختلافُ في ذلك إلى الاختلاف في طريقةِ فهم الناس للدين، ونمطِ قراءتهم لنصوصه، وكيفيةِ تمثلهم له في حياتهم.
مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ الحياةَ يمكنه استثمارُ الدين، كما يمكن استغلالُ الدين ممن يريد أن يُعلِّم الناسَ الموت، وهو ما تفعله الجماعاتُ المتشدّدة العنيفة في كلِّ الأديان. مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ السلامَ يجد الدينَ منجمًا يمكنه استثمارُه فيه، كذلك يمكن استغلالُ الدين في الحروب، مثلما حدث في الماضي ويحدث في الحاضر. مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ التراحمَ يجد الدينَ منهلًا غزيرًا يمكن استثمارُه في التراحم، كذلك يمكن استغلالُ الدين في التخاصم مثلما نراه ماثلًا في علاقات بعض المختلفين في المعتقَد في مجتمع واحد. مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ المحبةَ يجد الدينَ منبعًا لا ينضب يمكن استثمارُه في تكريسها، كذلك يمكن استغلالُ الدين في إشاعة الكراهية، وهي من أسوأ أشكال توظيفه في الحياة. مَنْ يريد أن يدلّ الناسَ على الطريق إلى الجنة لا يجده إلا في الدين، ومَنْ يريد أن يسوق الناسَ إلى النار يمكنه أن يزجّهم في جحيمها عبر الدين. مَنْ يريد أن يهدي للناس طمأنينةَ القلب وسكينةَ الروح لا يجد رافدًا يلهمهما أغزر من الدين، وذلك ما نراه ماثلًا في حياة أصحاب التجارب الروحية، الذين ينظرون للدين بوصفه ملهمًا للحق والعدل والخير والمحبة والتراحم والأمل والسلام، يقرؤون نصوصَه ببصيرة مضيئة، فيكتشفون ما يرمي إليه الدين من بناء مجتمع يمكن أن تسوده الأُلفة والأمن الروحي والنفسي والأخلاقي، الذي يتحقّق به الأمنُ الفردي والأسري والمجتمعي، وتترسّخ فيه قيمُ العيش المشترك. أصحابُ التجارب الروحية يتذوقون نكهةَ الدين وأخلاقياتِه السامية فتنعكس على مواقفهم وسلوكهم، يضيئون مصابيحَه ببصيرتهم، فينكشف لهم الدينُ كأنه مرآةٌ يرتسم فيها كلُّ ما هو رؤيوي من تجليات الرحمة الإلهية وألوانها البهيجة. في نمط تَديّنهم يتعلم الإنسانُ كيف يفرح بلقاء الله، وكيف تسقي قلبَه الطمأنينةُ، وروحَه السكينةُ، وينشرح داخلُه بسلام باطني.
في مقابل ذلك يمكن أن يكون التَديّنُ عنيفًا، حين لا يُفهم الدين إلا بوصفه رسالةً للموت، ولا تُقرأ نصوصُه إلا قراءةً مغلقة غليظة، ويتمثَّله الأفرادُ والجماعاتُ على أنه إعلانٌ لحرب لا تنقضي على كلِّ مختِلف في المعتقد.
للدين في مجتمعنا سلطةٌ على الأرواح لا يضاهيها نفوذُ أيّةِ سلطةٍ أخرى، لذلك يمكن أن تكون كيفيةُ فهم الدين وطريقةُ قراءة نصوصه فاعلةً في إحداثِ تحول أساسي إيجابي أو سلبي في اقتصاد المجتمع وتنمية جميع مجالات حياته.
الدينُ يمكن أن يكونَ حافزًا خلّاقًا للعمل والإنتاج والتنمية الاقتصادية، وذلك ما كشف عنه ماكس فيبر 1864 –1920 Maximilian Carl Emil Weber ، حين فسّر كيفيةَ تأثير البروتستانتية والقراءة الكالڤينية للكتاب المقدس في بناء فهمٍ يكتسي فيه العملُ والإنتاجُ معنى دينيًا، وكيف بعثت الكالڤينية تَديّنا ينشغل فيه المسيحي بحياته الدنيا، لينال الخلاصَ ورضا الله في الآخرة. صنعت هذه القراءةُ الكالڤينية نمطَ تَديّن تبدأ النجاةُ فيه دنيوية، والمعنى الديني للخلاص ينتقل إلى العمل الذي يتركز على تسخيرِ الطبيعة، واستثمارِ مواردها لإنتاج ما يتطلبه معاشُ الناس. أعلى جون كالڤن 1509- 1564 John Calvin، من قيمة العمل الروحية فجعله طقسًا دينيًا، لذلك كانت الأخلاقُ البروتستانتية طاقةً ألهمت العمالَ الإخلاصَ والمثابرة. في ضوء هذه الرؤية أصبحت المصانعُ وورشُ العمل بمثابة كنيسة، وصار العملُ طقسًا يحقّق الخلاصَ بمعناه
الديني.
في سياق تفسير ماكس فيبر أضحت الرؤيةُ البروتستانتية الكالڤينية للدين وإعادةُ قراءة الكتاب المقدّس في ضوئها الدافعَ الأهمَّ لتكوين الرأسمالية. ففي كتابه: "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" يرى ماكس فيبر أن الرأسمالية، بوصفها نظامًا مجتمعيًا، وُلدت في سياق الرؤية الدينية الكالڤينية للبروتستانتية، وليس نتيجةَ تطور اقتصادي تاريخي.
أخلاقُ العمل الكالڤينية التي تحثُّ على الانضباط والإخلاص والعمل الشاقّ كانت سببًا أساسيًا في ظهورِ العقلية الرأسمالية في أوروبا، وولادةِ الثورة الصناعية. تشدّد الكالڤينية على قيم: الثقة، والادخار، والتواضع، والصدق، والمثابرة، والتسامح، وترى النجاحَ على الصعيد المادي دلالةَ نعمة إلهية واختيار سابق للخلاص . على وفق القراءة الكالڤينية للبروتستانتية، لا يتحقّق خلاصُ الإنسان من خطيئته إلا بالتقوى، والتقوى ورضا الربّ لا يتحقّقان إلا بالعمل والإنتاج واستثمار الأرض، وليس بالقدّاس في الكنيسة... للحديث تتمة.