هل يمكن أن يتحول "التفكير" – وهو حالة ذاتيّة مفرطة في خصوصيّتها- إلى مهنة تدرّ على صاحبها من المردود المادي والمعنوي ما لا تدرّه أية مهنة أخرى؟ مع أن المهن المعروفة في الحياة الاجتماعيّة العامة تقتضي من أصحابها عملا إجرائيا واضحاً وظاهراً ودواماً أمده ساعات معلومات محددة يقضيها صاحبُ المهنة في ميدان العمل، بعكس هذه المهنة الغريبة التي لا تقتضي دواماً ولا إنجازاً ملموساً له معايير أكيدة، وهي على ما يبدو مهنة "افتراضيّة" لها منجزات غير منظورة قد لا يؤمن بها إلا من فهم جوهرها وعرف قيمتها وثقل فاعليتها في سوق العمل.
ترتبط فكرة المهنة والطبيعة المهنيّة لها بالعمل الميدانيّ الإجرائيّ الواضح والملموس الذي يوفّر قناعة بأنّ هذا المهنيّ وقدّ أدى عمله على أفضل ما يكون يستحق أجراً عليه، أمّا أن يكون التفكير مهنة من غير أداء واضح وملموس على الأرض فثّمة إشكال مفهوميّ يحضر حين يُطالِب من يفكّر بأجرٍ عمّا قام به من تفكير، وهي قضية ملتبسة وغامضة لا يمكن استيعابها بسهولة إلا لمن يدرك معنى التفكير وقيمته غير المنظورة في سوق العمل، بحيث تكون ساعة تفكير واحدة تسهم في إنتاج فكرة صائبة حول مشكلة ما في العمل قد تساوي آلاف الساعات من الجهد المهنيّ الميدانيّ
الصرف.
يمكن العودة إلى مقولة "أنا أفكّر إذن أنا موجود" التي أنتجها الكوجيتو الديكارتيّ بوصفها أنموذجاً للمعرفة العقليّة التي تميّز بها الفيلسوف العقلانيّ الشهير ديكارت، للوصول إلى قيمة التفكير حين يتحوّل إلى مهنة لا تندرج في سياق المِهَن المنظورة والمتعارف عليها والمتداوَلَة بقوّة في سوح العمل، وإدراك ما يمكن أن تدرَّهُ هذه المهنة الشاقّة غير المنظورة من أرباح خياليّة لصاحب العمل، وهو يقول لمن يجيد هذه المهنة: أنت فكّرْ فقط وانقل لنا نتائج تفكيرك وتمتّعْ بأعلى أجرٍ ممكنٍ لا تحلم به المِهَن الأخرى حتّى لو اجتمعت معاً، فالفكر الذي يحقّق الوجود بحسب أطروحة ديكارت بوسعه أن يحقّق أعلى الأرباح بإنتاجه للأفكار التي تنقل طاقة العمل من مرحلة إلى مرحلة أكبر وأوسع
وأشمل.
يتوقّف العمل المهنيّ التقليديّ عند حدود مُعيّنة لها معايير شبه ثابتة لا يمكن تجاوزها أو العبور من فوقها أو التلاعب بمعاييرها، ولها مردود واضح ومعلوم ومحدود أيضاً، فثمّة سقوف تفرضها طبيعة المهنة على مستويات الأداء المهنيّ المشتغِل في حقلها، وعلى الرغم من أنّ المهن المعروفة في العالم كلّها لا تعدم أفكاراً مستمرّة للتطوير والتحديث والتجديد، غير أنّها تخضع دائماً للمعايير العامة التي تحكم فضاء المهنة وترتبط بها وتعود إليها، بما يجعل من موجات التطوّر والتجديد والتحديث طالعة من عباءة المهنة وعائدة إليها في آن، ضمن حدود متاحة يستحيل اختزالُها أو مَحْوُها كي لا تفقد المهنة تقاليدها المركزيّة وتتحوّل إلى مهنة أخرى لا علاقة لها بالأصل، فالكرسيّ الذي يصنعه النجّار مهما تفنّن في صوغه بمهارة وبراعة يجب أن يبقى كرسياً في نهاية الأمر، إذ النجّار محكوم بالمادة التي يستخدمها وهي "الخشب" والوظيفة التي يقوم بها الكرسيّ في نهاية الأمر كي يجلس عليه شخص ما، أمّا التفاصيل الأخرى فبوسع النجّار الفنان والمبتكّر أن يأخذ حريّته كاملة فيها لينقل رؤيته التطويريّة الجماليّة في هذه الطبقة من الأداء، وهو ما ينطبق على المهن الأخرى المشابهة
تماماً.
مهنة التفكير ذات مفهوم آخر مختلف للمهنيّة لا تخضع للقياسات المهنيّة التقليديّة المعروفة والمتداولة في المهن الأخرى، بل تستمدّ تقاليدها من بؤرة التفكير نفسه، وتحيط نفسها بتقاليد ومعايير وممارسات لا تصلح إلا لها، وتذهب باتجاه الانفتاح على فضاء مهنيّ لا تحدّه حدود ولا يرتهن بمقاييس ذات طبيعة حسابيّة واضحة، بل تتمتّع بأكبر وأوسع وأشمل وأعمق طاقة من الحريّة في الإبداع والابتكار والبراعة والإنجاز بثُقلٍ وخصبٍ وكثافةٍ مهنيّة شاسعة، فهي مهنة مغايرة لا ترتهن بالمكان ولا بالزمن ولا بالحالة بل لها الحرية المطلقة في أن تعمل داخل مكان أو زمن أو حالة من اقتراحها، ومن أبرز مظاهر حريّتها أنّها لا تذعن لأيّ تأثير خارجيّ يمكن أن يدعوها إلى تسريع عملها ومطالبتها بنتائج ظاهرة وبارزة وواضحة، فنتائجها على الأغلب تراكميّة حتّى تصل إلى جوهر ثريّ بوسعه أن يضع الأشياء
في مواضعها الصحيحة ويجيب عن الأسئلة الكبرى.
تقوم هذه المهنة النوعيّة على مرجعيّة ذات إعداد معرفيّ وثقافيّ وفكريّ ومزاجيّ عالي المستوى، ويجب أن يكون هذا الإعداد متعدّداً ومتنوّعاً ومنفتحاً على ما هو متاح من آفاق بلا شروط ولا محدّدات ولا إكراهات من أيّ نوع، كي تكون أدوات المهنة وفعّالياتها وممارساتها في أعلى درجات الكفاءة والحيويّة والحريّة والجرأة والبسالة، وقد تسلّحتْ بقوّة جبّارة قادرة على الاختراق والنفاذ وإزالة العوائق والمصدّات وكشف الألغام وبسط الوعورة، لأجل الوصول إلى نتائج يمكن أن تقلب الموازين والقناعات والرؤيات والنظريات والمناهج والمدارس والتيارات والمسارات، وبهذا تكون المهنة الأعلى والأرقى والأغنى حين تسهم في تطوير وتحديث البنيات التحتيّة التي تنهض عليها المهن الأخرى كافة.