وقد تحنُّ إلى الضجيج

ثقافة 2021/01/26
...

  حسين الصدر
- 1 -
من أهم الغرائز البشرية غريزة تمنّي الأبوة عند الرجال والأمومة عند النساء، وقد تكون الثانية أقوى من الأولى بدليل أننا نرى الصبايا وبمجرد أن يبلغن السنة الثالثة والرابعة من أعمارهن يتعاملن مع "الدُمى" وكأنهن الأمهات لتلك الدُمى الشبيهة بالأولاد ...!!
- 2 -
وزقزقات الصغار في البيوت أعذبُ الأنغام التي يطربُ لها الوالدان ومَنْ ضمّت تلك البيوت.
- 3 -
ثم أنّ الصغار يتربعون على كرسي الإمارة فيُصدرون ما يشاؤون من أوامر وما على الوالدين إلّا التنفيذ...!!
يقول المرحوم الشيخ علي الشرقي
نحنُ مِنْ سادةٍ تَظُنهُمُ
حَوْلَ أولادِهِمْ مِنَ الخَدَمِ
إنّ قلبي أَرجوُحَةٌ نُصِبَتْ
بَيْنَ مَفْطُومَةٍ وَمُنْفَطِمِ
- 4 -
وإذا أردتَ ان تنظر الى الأكباد وهي تمشي على الارض، فانظر الى الاولاد وهم يتحركون ويمشون على الارض.
وهذا ما قاله الشاعر العربي تحديداً – ومنذ زمن بعيد -:
وإنما أوْلادُنا بَيْنَنَا
أكبادنُا تمشي على الأرضِ
- 5 -
وحين يخلو البيت من الاطفال، ومن ضجيجهم، يكون قد فقد دعامة كبرى من دعامات السعادة ...!!
وكاتب السطور هو واحدٌ ممن حُرِمَ مِنْ نعمة وجود الأولاد، فاسمعه ماذا يقول:
ليس لي مِنْ وَلَدٍ يخلِفُنِي
وَبِهِ أمتدُّ مِنْ بَعْدِ الوفاةْ
كم تمنيتُ بأنْ أسْمَعَهُ
ضارعاً يَذْكُرُني عَندَ الصلاةْ
- 6 -
إنّ الآباء يكدحون ويرهقون أنفسهم مِنْ أجل توفير ما يحتاجُه أولادُهم من أسباب الراحة والسعادة والاطمئنان، ويشعرون بلذة كبيرة وهُم يحققون لصغارهم كل ما يتمنون.
بِبِسْمة يفتر عنها ثغر الولد يُزيح عن أبيه جبالاً من الهموم، وبقُبْلَةٍ يطبعها الأب او الأم على خَدِّ هذا الولد او تلك البنت، تمتلأ النفس نشوةً واغتباطا وارتياحا ...
- 7 -
وهكذا تستمر المشاعر المشبوبة حتى بعد أنْ يُصبح الاولادُ رجالاً.
نُقِل عَنْ أحد كبار الفقهاء انه اطلّع على ما كَتَبهُ ولدُه من أبحاثٍ فقهية فأعجب بها غاية الاعجاب وبدأ يحدّث اصدقاءه من العلماء عن تفوق ابنه العلمي، فما كان من أحد اصدقائه الظرفاء من العلماء الا أنْ قال له:
ان ما نقلتموه عن المحروس لا يدل على فضل ولدكم وانما يدل على أنَّ بضاعتكم محدودة للغاية ..!!
- 8 -
وإذا كان الكثير من الأزواج اليوم يعمدون الى استخدام وسائل منع الحمل لإيقاف الانجاب فإن الاجيال السابقة لم تكن تهتم بتحديد النسل على الاطلاق.
ومن هنا فإن أعداد الاولاد من البنين والبنات قد يبلغ ارقاما كبيرة..
وقد يثير هذا العدد الضخم من الاولاد الضجيج والعجيج، ويسلبُ الآباء الأجواء الهادئة التي يحتاجونها بعد عودتهم الى بيوتهم من اعمالهم المضنية، غير أنَّ الاولاد حين يكبرون يستقل كل منهم بسكن خاص، ويدير دفة الامور في بيته الخاص، ويتشتت الشمل بعد اجتماعه، وإذا بتلك الشكوى من الضجيج تتحول الى أمنيات باجتماع الشمل الشتيت، ورجوع الأولاد الى ما كانوا عليه، ولكن هيهات لتلك الامنيات أنْ تتحقق.
وقد صوّر الشاعر السوري الراحل عمر بهاء الدين الأميري في قصيدة له عامرة كل تلك المشاعر والانفعالات فقال:
أين الضجيجُ العذبُ والشغبُ
أين التدارسُ شابه اللعبُ؟
أين الطفولةُ في توقدها
أين الدمى في الأرض والكتبُ؟
أين التشاكسُ دونما غرضٍ
أين التشاكي مَالَهُ سببُ؟
أين التباكي والتضاحكُ في
وقتٍ معاً والحزنُوالطربُ؟
أين التسابقُ في مجاورتي
شَغَفَاً إذا أكلوا وإنْ شربوا؟
يتزاحمون على مجالستي
والقرب مني حيثما انقلبوا
يتوجهون بسوْقِ فطرتهم
نحوي إذا رهبوا وإن رغبوا
فنشيدُهم: (بابا) إذا فرحوا
ووعيدُهم: (بابا) إذا غضبوا
وهتافهم: (بابا) إذا ابتعدوا
ونجيهم: (بابا) إذا اقتربوا
بالأمسِ كانوا مِلءَ منزلنا
واليوم ويحَ اليومِ قد ذَهَبُوا
وكأنما الصمت الذي هبطت
أثقالُه في الدار إذ غربوا
إغفاءةَ المحمومِ هدأتها
فيها يشيعُ الهمُ والتعبُ
ذهبوا أجل ذهبوا ومسكنُهم
في القلبِ ما شطوا وما قربوا
 
 إني أراهم أينما التفتتْ
نفسي وقد سكنوا وقد وثبوا
وأحسُّ في خلَدي تلاعبَهم
في الدار ليس ينالهم نصبُ
وبريق أعينهم إذا ظفروا
ودموع حرقتهم إذا غلبوا
في كلِّ ركنٍ منهم أثرٌ
وبكلِ زاويةٍ لهم صَخَبُ
في النافذاتِ زجاجها حطموا
في الحائطِ المدهونِ قد ثقبوا
في الباب قد كسروا مزالجَه
وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الصحن فيه بعضُ ما أكلوا
في علبةِ الحلوى التي نهبوا
في الشطر من تفاحةٍ قضموا
في فضلةِ الماءِ التي سكبوا
إني أراهم حيثما اتجهتْ
عيني كأسرابِ القطا سرَبوا
دمعي الذي كتمته جَلدا
لما تباكوا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا
من أضلعي قلبا بهم يَجِبُ
ألفيتني كالطفل عاطفةً
فإذا به كالغيثِ ينسكبُ
قد يعجب العذالُ من رَجلٍ
يبكي ولو لم أبكِ فالعجبُ
هيهاتَ ما كل البكا خَوَرٌ
إني وبي عزمُ الرجالِ أبٌ
وقد أوردنا القصيدة بكاملها لما اشتملت عليه من صور جميلة لانفعالات الأبوة ازاء ما ينطوي عليه عالم الطفولة الزاخر بالجمال والصخب والانفلات من جانب وما يحتله الأولاد من قلب أبيهم من حب وشغف في جانب آخر.