* كل سيّد على ما يملك. الفرق ليس دائماً في كمية الثروة ونوعيّة مالكها، الفرق في أن نعيد دائماً فحصَ مفهومي السخاء والبخل. الكتابة، من جهتي؛ إن كانت مفرطة في سخائها ستسقط إن عاجلا أم آجلا في الفاقة والفقر، وهذا لا يعني أن تغل الكتابة ازاء القراءة يدها ولا تبسطها كل البسط، وإنما يعني ذلك الذي ما بين كلمتي: تغل/ وكل، أي أن تكون مغلولة ومبسوطة في آن معاً، يعني أن تكون مقاومة لكل تبذير.
* هل الأثر في النصّ إلّا علامةٌ دالّة على فعلٍ ما سبق أن وقع؟ وإن كان كذلك فهذا يعني أنّه بداية لتقصّي ذلك الفعل وما يترتّب في ما بعد عليه. يعني زمنيّاً أنّ تقصّينا ما هو إلّا اللحظة التي بين زمن كتابة النصّ وحصول الأثر، وبين لحظة قراءة النص وتقصّيهِ الحاضرة. وعلى هذا كلّ نصّ لا يخلّف أثراً يعني أنّه قد دُفن في لحظة كتابته، ولكن ((العلامة لا تحيل إلّا إلى علامة أخرى))، وليكُنْ لأنّ هذه الإحالة إنما تعني أنّ الأثر بوصفه علامة إنّما يحيل إلى أثر آخر، مما يعني أننا في الحقيقة لا نتقصّى عن الأثر حسب وإنما عن أثر آثاره...، وهكذا حتّى آخر أثر ممكن. إن لم يكن الماضي- ماضي كلّ شيء مستجيباً للحظة الحاضر النقديّة فهو ما كان إلّا آنيّاً في زمنه، فكيف به في زمن تقصّيه نقدياً؟. هذا الفحص هو ((قرار التاريخ النقديّ الذي ينزل مثل السّاطور على ثقل الماضي، وثقل الحاضر)) كما فهمنا من نيتشه. لا قيمة حقيقيّة لأيّما نصّ ليس إن لم يُتَذكَّر حسب، وإنّما إنْ لم يصنع لنفسه ذاكرة تتمتّع بقدرة التّحريض على تقصّيه في كلّ قراءة حاضرة ومقبلة، أي أن تكون ذاكرة النصّ (الشّخصيّة) التي يصنعها الكاتب فعّالةً ما أمكنها ذلك في ذاكرة القراءة.
* يقول دريدا إنّ ((الفلسفة وإن كانت تُكتب إلّا أنها لم تصبح فلسفة إلّا عندما نسيتْ أنّها كذلك))، كما أنّ ((الفيلسوف يكتب ضدّ الكتابة. إنّه يكتب كي لا يحيد عن الدّائرة المتمركزة حول اللوغوس))، أي حول العقل الكليّ أو الخطاب، ذلك أنّ الكتابة التي يقصدُها ما هي في الحقيقة إلّا أدب، أي ماهي إلّا مجازات، من هنا ((الفيلسوف يكتب ضدّ الكتابة)) كي لا تتحوّل الفلسفة من جهة كونها المعنيّة بالحقائق إلى أدب لا يعنى إلّا بالمجازات. ولكن هل يخلو النص الفلسفيّ فعلاً من تدفّق المجازات حتى وإن كان هذا التّدفق هسيساً خفيّاً، أو لمْعاً من بعيد لا يكاد يُرى مادامت ((اللغة هي مأوى الوجود ومثواه)) كما يقول هايدجر، كما أنّ اللغة ذاتها لا تقوم من دون مجاز وتورية وكناية... شئنا أم لم نشأ؟. إذاً نحن نتكلّم هنا على نص (الحقيقة/المجاز) أمام أدبيّة النصّ الفلسفيّ. على وفق هذا يمكن فهم المغزى الدريديّ من ((إلّا عندما نسيتْ أنّها كذلك))، أي عندما نسيتْ أنّها كتابة أدبيّة.
* ترى لو لم يكن باشلار مذكَّراً أكان كتب أيضاً: أتركُ مؤنّث الكلمات يغوي نفسي؟. من جهتي: نعم ذلك أنّه بوصفه فيلسوفاً حالماً متأمّلاً شارداً، يرى في هذا الإغواء روحاً مشتركة ما بين الحلم بوصفه مذكَّراً وبين التأملات بوصفها مؤنّثاً، يقول ((لكلّ كلمة مذكّرٍ أحلم بمؤنّث مشترك معها))، كأنّه يريد أن يقول: أبغي المكتوبَ المُستأنِث، أو الكتابة المُذكَّرة، أي الخنوثة تلك المكتفية بذاتها.
* أن تكون كاتباً حرّاً لا يعني أنّك تصدر عن دروس كثيرة وطويلة تلقّيتها ثقافيّاً فقط وإنّما يعني، وهذا هو الأهمّ؛ أنك أساساً وقبل كلّ شيء تتمتّع بدخيلة مرنة لتقبّل هذه الدروس، لا لتتبنّاها وإنّما لتكون العضويّ النّسيجيَّ لا المنتميَ حسب، لتكون بصرها الثّاقبَ ولسانها الذّرب ويدَها في ما تكتب وتقول وتتصرّف، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك كلُّه إلّا عندما لا تكون الكتابة مصدراً يُرتَزَق منه ماديّاً وجماهيريّاً، ذلك أنّ الكتابة التي ((تدوم في الزمن تشكّل بالطّبع ردّاً قويّاً على عصر الكاتب ومجتمعه)) كما يحاجج بارت، وهذا واحد من أهمّ الفروق ما بين المؤلِّف الذي ((يؤدّي وظيفة ما))، وبين الكاتب الذي ((يؤدّي نشاطاً)).
* الكتابة الأدبية في جوهرها، وفي واحد من أهمّ معانيها هي انشاء عالم خاصّ في كلّ نصّ تصميماً وبناءً بوساطة لغة ذكيّة خاصّة بهذا العالم المُنشأ يخاطب بها العالم الذي من حوله. من هنا تكون أولى مهمّات النّقد هي التّعرّف على عالم النصّ والتعريف به ونقد خطابه. فإذاً إنّ هدف الكاتب ليس هو العالم، وإنما هو كيف يجترح عالمه الشّخصيّ أسلوباً وخطاباً وأفكاراً داخل العالم، ليكون هدف الناقد هو نقد العلاقات التي بين هذين العالمين. الكاتب يكتب، أما الناقد فلكي لا يكتب ما كتب الكاتب؛ عليه أن يكون كاتباً آخر يجسِّر ما بينَ عالمِ ما يقرأُ والعالم، كي لا يكون مُسْتكْـتَباً من قِبل الكتابة التي ينقدها.
* كيف يمكن لقراءة عمل أدبيّ ونقده بوصفهما فعلاً زمنيّاً أن لا يوقِفا حركة هذا العمل في زمنهما هذا ويثبّتانها، ذلك أنّ هذه الحركة هي وحدها من تمدّ العمل بديموميّة نقده على الدوام. أي كيف يمكن تحييد المعايير النقديّة لزمن ما، كي يظلّ العمل الأدبيّ غير قابل للثبات بعدم إدراجه أو إخضاعه لمقاييس نقديّة لزمن ما، من دون المحافظة على بُعد جدليّ بين هذه الحركة ونقدها؟.
* إنّ كوجيتو ((السّهر على المعنى الغائب)) في الكتابة، ذلك المعنى الذي يلاحقه القارئ والناقد لا لينقلاهُ إلى الحضور وإنّما ليستنتجا منه تلك المعنمات الضّاربة في الغياب، إذ ما قيمة الأسرار والأسئلة بوصفهما معاني مكنوزةً في الغياب بعد نقلها إلى الحضور؟
* تكرير المعنى في الكتابة الأدبيّة هو اِعادة انتاج معنىً ما، ولكن مُصفّى منقّىً من ما كان يدلّ عليه قبل هذا التّكرير. هكذا يظلّ المعنى يظهر كما لو أنّه لم يكن سابقاً، ولكن جوهريّاً هو نفسُه بمظهر جديد وفي اتّجاهات أُخر. التّكرير سمة أو شرطٌ أوّليّ ولكن أساس ورئيسٌ في آن. التّكرير نفي للتّكرار.