تنفعنا وسائطُ التواصل الاجتماعي العديدة في فهم جانب معقّد من حياتنا، فنحن غير مكتفين بوسيطة واحدة، مع أنها تؤمّن اتصالنا، وعبر الصوت والصورة، مع الآخرين، فنجد في هواتفنا «الماسنجر والفيسبوك والواتس آب والانستغرام والايمو ووو».
برأيي فان الوسائط هذه تتيح لنا معاينة جانب آخر من ثقافتنا، حيث تتعدى وسائط التعبير، وتتباين، وتتجدد بين الكتابة والموسيقى والفنون الاخرى، فترانا نتنقل بين هذه وتلك، ضمن مسعى كونيٍّ للتعرف على ما حولنا إدراكاً واستمتاعا.
ولا أرى في ممارسة حياتنا أو في ما نقرأ ونكتب من أنماط كثيرة إلا جنوحاً فطرياً نحو الحرية، والاحاطة والتمكين، وهي من عميق أسرار النفس الإنسانية، التّواقة إلى التجديد والابتكار. ومعلوم أنه، حتى العام 1831 كانت التراتيل في صلاة الشكر تقليدية في بريطانيا، لكنها ظهرت جذلة بإحدى المجلات، ومفعمة بإمكانيات النثر الشعرية، كان ذلك قبل أن يجرؤ أحدٌ على كتابة مقطعات بوعي ذاتي، لها مفهوم “قصيدة النثر” التي نعرفها اليوم.
وفي واقع الحال أننا لم نعثر على تعريف نهائي للشعر، ليس في ثقافتنا حسب، إنما في لغات العالم أجمع، ولعل هذا من جميل ما نصنعه له، حيث ظلَّ مستودَعاً لكل المشاعر، دونما تحديد، وظلت قدرته فائقةً على استيعاب المشاعر تلك، وقولبتها في الشكل الذي يرتأيه صاحبُها، وبذلك اتاحت المبهمات التعريفية فضاء لا نهائياً لحريته، حتى صرنا نحار في إطلاق التسمية النهائية على كثير مما نقرأ ونسمع، لهذا نجد “أن قصيدة النثر ليست أقلّ جاهزية من الشعر، في تبنّي الايقاع والموسيقى، وإنتاج المعنى، أو التأثير في قارئ» * لهذا، ليس من الحكمة قولنا: إن قصيدة النثر شكلاً، مثلما لا يصح قولنا بانّها لا تملك شروطاً شكليةً، إذ الشكل هنا يقتضي وجود حدود معلومة، مثلما يقتضي وجود اشتراطات له، فلا شكل ولا اشتراطات، إنما شعر وقدرة في التأثير.
الأمر الذي حرّضَ بعضَ خصومها على القول بأنها لا تملك بنية فنية معينة، ومتى كانت البنى النهائية أرضاً خصبة للإبداع، متى انتهى الشعراء إلى القول: بأنهم وفي القصيدة هذه، إنما جاؤونا بالشكل، الخلاصة، حيث الشكل معلوم والاشتراطات واضحة؟ في محاولاتي الشعرية الاخيرة أردتُ أن أختلف مع تصوراتي التقليدية لقصيدة النثر، فأصدرتُ كتابي (من الفندق الى الحانة) على أنه كتاب رحلات، لكنهُ لم يكن كذلك، فما كنت برحّالة فيه، لكنني، أردتُ فضاءً جديداً للقصيدة، لعلمي بأنَّ الشعر الحديث لا يستكين ولا يركن الى شكل بذاته، وهو من الجرأة، قد يأخذ من القصة والرواية الشيء الكثير، بل وقد يتجاوز حدود السرد التقليدية أيضاً. *مقدمة لقصيدة النثر، أنماط ونماذج- تحرير بريانكليمنس وجيمي دونام- ترجمة محمد عيد ابراهيم- الهيئة المصرية للكتاب.