ضحى عبد الرؤوف المل
القلق بشأن كيفيَّة تمضية الوقت في البيت هو هاجسي الأكبر بعد أنْ أصبحت المدن خالية في فترة عزل إجباريَّة. فالفيروس فرض علينا تقاعداً قسرياً للوقاية من مرضٍ لا يمكن التعافي منه بنسبة ما زالت كبيرة. إلا بالحجر الصحي للتقليل من نسبة الإصابة به، ولكنه أعطانا الكثير من الوقت للقراءة أو تصفح الإنترنت أو تعلم شيء جديد أو حتى ممارسة مهنة افتراضيَّة أو حتى مهنة ما كنا نفكر بها لولا هذا الفيروس الذي أهدانا نعمة أخرى ما كنا لنمارسها إلا أثناء الحجر الصحي لـ (Covid – 19) وأهمها التفكير بمستقبل مجهول وفيروس سيتغير معه وجه العالم ومساره اليومي
ولكن كل هذا لم يمنعني من الاعتناء بالنفس لتتنفس البشرة التي كانت في ضغوطات الماكياج والإهمال المتكرر لجسد أنهكته الأعمال اليوميَّة خارج المنزل والمناسبات الأخرى، فكان من الضروري أخذ الحمام الساخن صباحاً ومساءً لأشعر أنني في منتجعٍ صحي لأعيد اكتشاف نفسي أو الأحرى جسدي المتهالك جراء ضغوطات يوميَّة ما كنت لأشعر بقساوتها لولا الحجر الصحي الذي فرضه الوباء على العالم بشكل عام.
في الحجر الصحي انغمست بالموسيقى انغماساً حركياً يزيد من اكتشافي لنفسي، ويجعلني لينة بعد قساوة الجلوس على كرسي لساعات قولبتني، بمعنى أني كنت كمخلوق آلي يشرب حتى فنجان القهوة وهو في حالة من التخدير الدماغي المبرمج والمدفوع بمتطلبات ما هي إلا الهواجس الصحافيَّة للحفاظ على وهم الاستمراريَّة الإعلاميَّة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فالحجر الصحي جعلني أبحث عن راحة دماغيَّة في قراءات مختلفة، ومنها تلك التي تجعلني أتعلم كيفيَّة القراءة الصحيَّة في حياة افتقدت جماليتها وأنا ابنة الحرب التي عاشت في الملاجئ خوفاً من الرصاص والسلاح الثقيل وأنا ابنة الخمسين التي تعيش الآن الحرب البيولوجية المرعبة، لأن فيروسها مجهول المنشأ ولا يمكن لأي سلاح القضاء عليه حالياً. كل هذا جعلني أتساءل هل هذا الوباء الذي أبعدنا عن الحياة نعمة أم نقمة؟ وهل كنا فعلاً من الغافلين؟
سمح التواصل مع الأصدقاء والأهل عبر الهاتف من خلال الاتصال بهم ومكالمتهم على شبكة wifi بالتلذذ أو بالإحساس بحيويَّة الحوار المريح نفسياً، وأنا في حالة من الاسترخاء على كرسي الهزاز بعيداً عن الاهتمام بكرم الضيافة، وما هو متعارف عليه عند استقبال الضيف، كما أنَّ تحضير الأكل في المطبخ بما هو موجود فيه جعلني أكتشف الكثير من الأكلات المهملة بعد أنْ أسرفنا بالأكل الجاهز من بيتزا ومناقيش وكريسبي وغيره. فهذه الأكلة تحتاج لوقت أقل في التحضير أو الأحرى أكلات جدتي، ومنها مفركة البطاطا بالحبق والزيتون بحامض، والتي ما كنت لأقوم بتحضيرها لولا الحجر الصحي والوقت المفتوح على شتى أنواع الممارسات المحصورة حتما بين جدران المنزل، وأهمها معرفة تاريخ السينما ومتابعة أدوار فاتن حمامة مع فريد الأطرش والإحساس بروعة الأداء التمثيلي، بل اكتشاف أنها كانت مغرمة به، ففي جميع أدوارها تبلغ المصداقيَّة نسبة عالية من المشاعر أعلى من نسبة سرعة انتشار كورونا الذي وضعني أمام فريد الأطرش وفاتن حمامة وجهاً لوجه في زمن لم يكن فيه الفنان بحاجة لعمليات تجميل أو الكثير من الابتذال، والنص هو رسالة اجتماعية هدفها فتح المجتمع المنغلق على ذاته من خلال سلوكيات جديدة أهمها مواجهة الغرب بالانفتاح خاصة المرأة. فهل أشكر هذا الفيروس الذي قد يضعني وجهاً لوجه مع عزرائيل؟
لست أشكو نعمة فيروس أو القلق من إصابة فيروسيَّة مميتة أجهل كيفيَّة التقاطها أو الصراع معها، بل نحن نرى الآن ما لم نكن لنراه من قبل بما أسرفنا فيه ووقعنا فيه، و”الناس نيام ان ماتوا انتبهوا” نعم يبدو أننا في حالة موت جعلتنا نرى الحياة من منظار كوروني مسلط على سلوكياتنا المغمسة بهموم المصير، فالطبقات الإنسانية ليست درجة واحدة ولكل طبقة همومها، فتاريخ السينما وعشق فاتن حمامة لفريد الأطرش لا يهتم له بائع الكعك الذي يقف على الرصيف ويراقب المارة منتظراً من يشتري كعكة لينفق على قوت عياله، ولا يهتم له صاحب الباص المتوقف عن الحركة قسراً ولا تهتم لقصة العشق تلك المرأة التي اعتادت على اركيلتها وفنجانها القهوة، لتبدأ يومها بتحضير طعام بناتها بعد عودتهن من صالونات الماكياج وهن يجلسن أمامها غير متبرجات بل متأففات من جلوسهن بين جدران المنزل وغيومه التي تنذر بالكورونا الاختناقي، والأكبر من فيروس يصيب جهاز التنفس المهترئ عند الكثير من الذين أدمنوا المعسل والأركيلة ذات الرأس الدخاني المتصاعد والذي يصيب من حوله بتلوث في الرئتين.
فهل نخاف من فيروس لن يقتل المزيد منا لأننا لا نهاب الموت ونحن نعاني من آفات سلوكيَّة أكل عليها الزمن وشرب.
فكرت في تاريخ السينما مجدداً وكيف للفن في العصر الذهبي أنْ يخاطب الأجيال في زمن ستصبح السينما فيه على موقع نتفليكس وضمن مختارات عالمية تم وضعها خصيصاً لمن هم في الحجر المنزلي كي يشاهدوا ما يجب أنْ يشاهدوه في العصر الحديث الذي أنتج فيروساً بيولوجياً شبحياً لا يمكن القضاء عليه في الوقت الراهن الذي يحمل في طياته التاريخ الإنساني القديم، ولكن عبر خليوي مفتوح على شتى الألعاب ومنها “البرجيس” تلك اللعبة التركيَّة القديمة على قماشة مزركشة وأصبحت الآن على شاشة خليوي لا تمنع الصراخ أو الأصوات العالية في منزل محشو بالرؤوس التي تجلس على أرض مفروشة ببساط صغير، ولا تملك ثمن ربطة الخبز التي تأتيهم من بعض المحسنين بعد أنْ توقفوا عن جر عربات الخضار في الأسوق أو توقفوا عن ممارسة مهنة تؤمن لهم قوتهم اليومي.
فهل الهموم الاقتصادية تتساوى بين الناس؟ وهل نحن أمة يمكنها أنْ تقاوم فيروسات الزمن التي أنجبت هذا الفيروس الكوروني الذي توجنا بعزل جعلنا نرى أنفسنا لأول مرة ونحن أموات؟.