كثيرة هي الأعمدة الصحفيَّة التي تطالعنا بها الصفحات الثقافيَّة للجرائد اليوميَّة أو الأسبوعيَّة، وقد يتعدى عدد هذه الأعمدة في بعض الصفحات إلى عمودين أو أكثر تبعاً لطبيعة هذه الصفحات فضلاً عن الكتّاب أنفسهم أصحاب تلك الأعمدة كأنْ يكونوا أدباءً أو نقاداً أو صحفيين ومدى باعهم في كتابة العمود الذي ينبغي أنْ يحوي فكرة محددة بعددٍ محددٍ من الكلمات هي عادة أقل من عدد الكلمات المطلوبة في كتابة المقالة أياً كانت هذه المقالة أدبيَّة أو نقديَّة أو سياسيَّة أو اجتماعيَّة.
ولا غرابة أنْ تكون لكتابة العمود خصوصيَّة؛ فليس كل من يكتب العمود قادراً على تحقيق الغاية المرجوة فتكون له من ثم أهمية في عالم الصحافة وبشكل يثير القراء ويجعلهم يترقبون نشره وربما لا يطالعون الجريدة أصلاً إلا من أجل هذا العمود. وهذا ما كان يلقاه عمود طه حسين مثلا الذي داوم على كتابته سنوات عدة تحت عنوان (حديث الأربعاء) اقتداءً بسانت بيف الذي كان له عمودٌ صحفيٌّ في جريدة الوموند الفرنسية بعنوان (حديث الاثنين) وكذلك ما كان يكتبه الناقد الكبير علي جواد الطاهر بعنوان (ما وراء الأفق).
ولا تكون للعمود الصحفي ـ يومياً كان أم أسبوعياً ـ شهرة ما لم تكن الاحترافيَّة هي سمة من تعهد إليه كتابة العمود، كما أنَّ الاحتراف لا يتيسر لكل كاتب عمود مهما كان هذا الكاتب أديباً شاعراً أو قاصاً أو روائياً أو مسرحياً ما لم يكن له أسلوبه المميز الذي به يستطيع جذب القراء.
ولا خلاف أنّ الغاية من وجود الأعمدة اليوميَّة هي ملاحقة الظواهر المستجدة والطارئة كما هي الحال في (العمود الثامن) الذي يكتبه الكاتب والصحفي الأستاذ علي حسين وينشر يومياً في الصفحة الأخيرة من جريدة المدى. وقد تكون الغاية محددة في زاوية ما يتم تخصيصها لأجل مناقشة قضية من القضايا المجتمعيَّة أو مسألة من المسائل الفكريَّة التي يحتاج النقاش فيها الى عرض وتبسيط يتم تفصيله تدريجياً وبشكل متسلسل من خلال العمود الصحفي.
بيد أنَّ ما نلمسه مؤخراً في بعض الصفحات الثقافيَّة لصحفنا اليوميَّة أنَّ الأعمدة صارت تفرض وجودها مكتوبةً خارج هذه الغايات التي أشرنا إليها آنفاً، كأنْ يُكتب العمود لخدمة صاحبه ممن لا تسعفه قدراته الأدبيَّة ولا النقديَّة على كتابة مقالة كاملة لذلك يلجأ إلى العمود كي يضرب عصفورين بحجرٍ واحدٍ، فهو من ناحية سيتخلص من ثقل كتابة المقالة التي يجدها صعبة عليه وهو من ناحية أخرى سيكرر وجوده في الصفحة ولا يهمه بعد ذلك هزال لغة عموده أو فقر محتواه.
فهل يا ترى يعرف ذلك الأمرَ أصحابُ الأعمدة.. وأغلبهم ممن يملكون سلطة.. بحكم وجودهم في الصحف محررين أي أنهم هم من يزكون أعمدتهم؟.
لا مناص من القول إنّ العلة ليست في كتابة عمود صحفي لا تتجاوز كلماته أربعمئة كلمة فذلك أمرٌ متيسرٌ يقدر عليه أي متعلم؛ وإنما العلة في الفكرة التي يريد صاحب العمود عرضها على القراء من خلال عددٍ محدودٍ من الكلمات وفي الوقت نفسه يُشبع الفكرة إشباعاً يلمّ مختلف أبعادها..
ولكن أي الأفكار تصلح للعرض في الأعمدة ؟ وهل تأتي فكرة الكتابة عفو الخاطر متداعية على بال صاحبها ليسطِّرها في عموده أم هي مسألة ينبغي أنْ تهم المجموع وتؤثر فيه إضافة واستزادة وإثارة وتنبيهاً؟ وهل يحق لصاحب العمود أن يستل من كاتب مشهور الفكرة ليعرضها من دون أن يشير إلى استلالها منه؟ ومتى يكون الاستلال انتحالاً ومتى يكون سطواً ومتى يكون إغارة وسرقة؟ وهل يحتاج الكاتب بهذه المساحة المحدودة أخذ أفكار غيره ليعرضها في عموده أم إنَّ قلة المساحة تجعل العمود مناسباً لتدليس الأفكار والإغارة عليها والتمادي في الأخذ منها بفذلكة الاختزال الذي معه يغيب الانتحال وتغمط حقوق الأصل أعني صاحب أو أصحاب تلك الأفكار؟
بل الأهم من هذا وذاك هو كيف يحافظ الكاتب على الاختزال من دون أنْ يسطح فكرته فلا يعرضها عرضاً استهلاكياً، كان غيره قد عرضها قبله عرضاً موفقاً وجميلاً لا يحتاج معه إلى أنْ يأتي بعموده ليعيد المعاد اجتراراً واستهلاكاً؟!
أقول هذا وأنا أجد بعض كتّاب الأعمدة في صفحاتنا الثقافيَّة يتجاهلون أو ربما لا يعرفون ما معنى أنْ يكون المرء كاتب عمود حسب؛ بل العكس نجدهم لا يعرفون الفرق بين العمود والمقالة فضلا عما نلمسه عندهم من اهتمام بالعمود بوصفه غاية من أجلها يتبع شتى الوسائل لتحقيقها. وليس العكس أعني أنْ يكون العمود وسيلة لتحقيق الغايات التي عادة ما تعود على الآخرين بالتثقيف والنفع والمعرفة.
وليس أدل على التوسل بالعمود غاية من هذه السرقة والانتحال والتسطيح والشطح والتهريج التي قد تصل حد التمادي إلى درجة التوظيف لها جميعاً على التوالي أو دفعة واحدة أحياناً. وهو ما ينتهي بكاتب العمود إلى أنْ يكون مهرجاً أو قرقوزاً لا إتقان له ما لم يُضحك القراء على تمثيله أعني كتابته.
ولا يكسب كاتب العمود ثقة القراء ما لم يكن في ما يكتبه من التخصص والقصدية ما يناسب قدراته وإمكانياته الذاتية. أما أن يشرّق ويغرّب معتقداً أنه يقدم جديداً إلى القراء فإنه في ذلك واهمٌ كل الوهم كونه يهلهل الكتابة ويضيع قيمتها. هذا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنَّ قيمة العمود هي في الفكرة المحددة المطلوب عرضها إلى جانب المساحة المختزلة في كتابتها.
مؤدى القول إنّ أية كتابة لا يمكن أنْ تكون بلا فكرة كما أنّ لا فكرة يُعبر عنها بكتابة مقطوعة أو مجترة، حتى لا يدري كاتبها ماذا يكتب وكيف يكتب.