إيقـاعـات الأسطـورة ولــذاذات الـقـراءة

ثقافة 2021/01/31
...

  ناجح المعموري 
 
تكرر السؤال التقليدي والنمطي المألوف منذ زمن بعيد. وظلت صفة النقد ذوقية، انطباعية، مثلما عرفنا ذلك من خلال تجارب نقدية كانت مهمة ومنها يحيى حقي وعبد الجبار عباس أو التجربة الجمالية الغائرة في أعماق النص، بحثاً عن المضموم والمدفون في السرد الواقعي المتسامي وتكشف شعريته بوقت مبكر كما في التجربة الرائدة لإدوارد خياط، وهذا يعني بأن التجربة النقدية ليست ثابتة على المعروف من التوصيفات والمألوف المتداول للذوق التقليدي المعني بالجميل والرديء. وهذه غادرتها النظرية الأدبية التي أفادت من المناهج والنظرية الجديدة والتي وظفت اللغة واستعانت بالفلسفة التي وجدت باللغة مسكوتات جوهرية، لأن الفلسفة زودت الناقد بثقافة عميقة ومتنوعة وجعلته متمكناً وهو يقرأ النص بعين مختلفة عن عين الاخر، لأن المثقف المزود بالفلسفة ووحدات الجمال التي غذتها المعرفة يقدم كشوفاً رفيعة المستوى ويتعمق تماماً وكأنه يزاول محفوراته في طبقات الأرض.
من هنا كانت فحصوصاته متساوية ومعبرا عنها بلغة شعرية لم تكن مألوفة من قبل، والتعايش معها غير مألوف، لانه دخل منطقة الحقيقة في اللغة، وأعني بها حقيقة الشعرية التي لن تغادر فاعلها الأكبر وهو الهرمونيطيقيا. هذا المجال الفاعل للغاية والذي يجعل من الناقد بصيراً. يرى المخفي ويتكشف اسراره ومدفوناته والصامت. ولابد من التذكير بدور البنيوية منذ بداياتها واجتهادات نقاد الحداثة العربية مثل مالك المطلبي، عبد الله ابراهيم، وجورج طرابيشي واعتدال عثمان.. الخ، كل هؤلاء لعبوا وأعني المضمر بهذه المفردة التي قادت القراءة نحو مجال مضيء، كاشف، ومعرّف عما هو غائب.. ومثل هذا الحضور المهم لنقاد انشغل بهم الوسط الثقافي العربي والمعرفي الذي أعلن عن تحولاته بالذهاب نحو الفلسفة وإن لم يقل ذلك بشكل صريح، لأنه صار عقلاً متمكناُ من الذهاب لكل ما تفضي المناهج النظريات التي تقدم ما هو جديد، لذا كانت الثقافة العربية المتميزة بعلاقتها مع الآخر، هي الأكثر طاقة في الترصين والثبات واللعب المتوفرة عليه الفلسفة المخولة له أن يخضع النص للتأويل وأعني بالنص الفلسفة ذاتها والأدب والتاريخ. هذا اللعب والحضور وفتح مجالات للشعرية قادت الناقد الرصين الهارب من ذوقياته والمتحصّن بالعقل القادر على الغوص والكشف عن القراءات الصادمة التي منحت النص الأدبي رفعة وتسامياً لأنه لم يعد نصاً راضياً بالمعنى الخارجي. والتأويل الذي قال به هارتمان، وفاتحاً المنافذ والابواب بالامكانات البحث عن الصامت إو المسكوت عنه في الأدب والتاريخ والتأمل معها بآلية جمالية واحدة، تتجاور الشعرية فيهما وبينهما من هنا كان الجديد. ونجح الناقد المختلف والذي غادر زمناً قديماً والتقط تجوهرات الفلسفة ودورها الكاشف عن الشبكات الرمزية، واعلنت هذه التكشفات ضرورات استدعاء العلوم الإنسانية، مثل سوسيولوجية الثقافة/ علم النفسي/ الانثربولوجيا التي قدمت عوناً جوهريا لحظة التجاور مع النص الأدبي، بغض النظر عن صفته الحصرية اذا كان شعراً او سرداً. وأسهم هذا التنوع في فضاء العلوم بطاقة لا مثيل لها في التأويل وفحص النص وتقشيره ووضعه في منطقة البياض الصادمة، ليس بسبب لونها وانما بتأثيرات زوال الطبقات التي قشرتها طاقة الناقد ووضع المحفورات امام الكل مثيرة لمن يحدق بها. فالشعرية هي العين التي ترى بعين مختلفة عن التي ينظر بها الكائن العادي. إنها العين السرية القادرة على فحص كل ما هو مختفٍ ولم تصل إليه العين التي ترى التقليدي.وأعتقد بأن العين المحصنة بالقوة النازلة إلى رواسب النص هي المقتدرة على تذويب اللاصق والتشويهي العالق بالنص. الشعرية تمنحنا صوتاً غيبه التراكم فوقه وصار طبقات. ولم نستطع التعايش مع الشعرية التي نبحث عنها وندور حولها في كل شيء ابتدعه المخلق المبدع، ليست الأنواع الأدبية وانما الأزياء وجماليات الجسد والموسيقى الغناء، الرقص. كل الفنون إيقاعاتها ليست منسية، بل حاضرة مع الروح التي قادت النص نحو كشوف جديدة.
واللغة مباهاة الجمال بالجمال المستور في الداخل وليس الخارج، الذي أنموذجه قصدي، تزييني، مؤقت، بينما اللغة الحامل للشعرية تبقى بروحها الحيّة، تلعب مع كل ما هو مخلّق من قبل الانسان وفي هذا سريات أشار لها باشلار وقال بأن اللغة والتعامل معها، يفضي بالقارئ نحو العش بدلالاته العديدة وحيواته المتكررة، وهنا تكون اللغة هي عش الدلالات التي لا تكف عن رموز موروثة ومتعرف عليها عبر مصادر العلوم الانسانية. والرموز هي خفايا اللغة التي ارتضت أن تفرخ رعشاً لبيوض العصافير. مرَّ كل شاعر بما في ذلك الأكثر مباشرة من بينهم في مرحلة اللغة المعقلة، أي اللغة التي جرى تأملها فلو استخدم اشتقاقاً فائقاً للوصف، واذا ما خالفه الحظ في أن يكون بغته ساذجاً. يتمتع بوعي يجعله يشعر بأن السذاجة هي البراعة، سعيد للغاية ذلك الذي تأمل اللغة، في عزلته، عبر اصغائه لكتب لا حصر لها. كما قال باشلار المبدع صامت، وغائب، بمعنى غير بعيد، أو مطمور في المدفونات بل هو غائب مع المعنى ويجوز عبر غيابه شبهاً مع تباينات الدلالة وتنوعاتها واختلافاتها بين حشد من عشاق البحث عن الدلالة.
ربما تأخرت كثيراً في الحديث عن منهجي المعروف "منهج النقد الاسطوري" إنه شذرة نادرة جداً، لأنه صعب ومعقد، ولن يتمكن الهاوي له أن يتأهل اكاديمياً. والذكي من بينهم لا يعتلي عتبته الأولى. ربما هذا الرأي صعب وحاد. 
البعض ادّعى وأنا اعرف بأن الذي أعنيه يسبح وسط ماء ضحل. الميثولوجيا متراكمات تاريخ كامل وتداخلات ثقافات وديانات وعناصر كثيرة. الميثولوجيا قداسات وأحياء وانبعاث كل الأساطير ذاهبة نحو الحياة والخصوبة والانبعاث. إنه طريقي الذي قادني إلى ما لم يصل إليه أحد.. وما زلت أتذكر ما قاله المرحوم د.متعب مناف في صحيفة الأديب وفي محاضرة ببابل: ناجح المعموري خزان ماضي بابل وعارف بكل ما جاورها وهو الوحيد القارئ وغيره لا يقوى على ذلك. وأشهد بأنه زارني بعد تعذر اللقاء في بيتي واسمعني ما هو مسعد لي واستجاب فرحاً بكتابة مقدمة طويلة جداً عن "الأصول المصرية في قصة يوسف".
هذا هو طريقي، لكن لا يعني بأني غريب عن نظريات النقد والتأويل، لأني أتغذى بهما وأزاول تطعيم ما أكتب، وما أنجزته كثير جداً اكثر من (50) كتاباً بعد حصاد في زمن الدكتاتور، لكني ومن خلال التراكم الثقافي والمعرفي والانغمار بالفلسفة التي منحتني ما أريده لأن الفلسفة نافذة الأسطورة والاطلال عليها أرجو أن لا يستغرب أحد مما سأقوله وهو لعبتي الخفية التي لا يعرفها إلا منتج النص الذي انشغلت به وقدمت قراءة عنه، بأني أعيش لحظة شطح صوفي وأنا أركض وراء وحدة أسطورية، تفتح لي منفذاً لتفكيك النص.
ومن حقي أن أتحدث عن مشروعي وهو معقد، ابتدأ من سومر، مروراً سوريا/ كنعان/ مصر/ بلاد الاغريق وقادني هوس الحماس الى الهوية العراقية القديمة وما ابتكرته من عناصر غفيرة ووفيرة الغنى، بحيث لعبت البنية الذهنية دوراً بارزاً وخلاقاً وتسيدت فيه الآلهة الكبرى.