هل بات الانسان بلا أسرار وهل انطفأت رأسمالية الدول؟

ثقافة 2021/01/31
...

حسب الله يحيى
 
هذا كتاب استثنائي.
الاستثناء فيه، انه كتب بلغة أدبية واضحة وسليمة لتقديم مادة علمية بالغة الدقة والاهمية.
كما انه يقدم نمطاً جديداً في تناوله موضوعاً يتعلق بمستقبل الحياة البشرية، ونقده العلمي لمعطيات الديمقراطية في الدول الرأسمالية وكيف انها بدأت تنطفئ، لتتحول الى عبودية من طراز آخر، مرجعيته تكنولوجية تخاطب وتتعرض لأدق وأهم وأكثر الاجزاء في خصوصية الفرد، بحيث تصبح انفاسه محسوبة، وطريقة حياته بكامل صفحاتها تحت المجهر، وليس هناك من سر او خصوصية يمكن امتلاكها او الاحتفاظ بها.
وما يسري من تقنيات حديثة، يسري على الدول وعلى عملها واسرارها وقيادييها وجميع ممارساتها. هذه القوة الخفية التجسسية هي ما ستشهده البشرية في وقت لاحق، واذا كانت نبوءة جورج اورويل قد صدقت وتحققت في روايته "1984" فان ما يجري من اختبارات وابحاث علمية يفوق مخيلة اورويل بأبعاد شاسعة.
إن كاميرات المراقبة التي تم نصبها لمراقبة الآخرين، باتت ادوات تقليدية ومكشوفة، وصار بامكان الأفراد الانفلات من عدساتها والتخفي، من دون الوقوع في رؤيتها بطرق سهلة ومعلومة. الا ان ما بات معروفاً ومتداولا علمياً هو الكشف عن " بطاقة الكترونية بحجم حبة الارز تزرع تحت جلدهم، تسمى RFIO مصنوعة من السليكون وهوائي، لكي يستطيع استقبال وارسال البيانات والاستعلامات من خلال الراديو".
صحيح ان اورويل قد دعا الى التكامل (التعلم والاستيعاب والتقبل) وانه قد بدأ التعلم، وبات على العقل البشري (الاستيعاب والتقبل).
الا ان هذا العقل ما زال يستمر في تلقي المزيد من التعلم والاكتشاف والعمل الى جانب ذلك على الاستيعاب ومن ثم التقبل، هذا التقبل الذي يصفه مؤلفا الكتاب (ندى فاضل الربيعي وعباس الزيدي) بـ (العبودية مقابل الامن). فهل يرضى الكائن البشري على ان يرهن حياته عبداً امام توفير الامن والسلام له؟ انها ارادات وقرارات واجراءات حاسمة، وليس من السهولة القبول بها، ذلك ان تحقيق الامن هو احد اهم اسباب وجود الدول والنظم الاجتماعية والدساتير والقوانين المرفقة بها. 
نعم، لقد ظهرت من قبل الآلة وساد نظام (الاتمتة) الذي يعتمد الآلة في الاعمال كافة والاستغناء الى حد كبير عن الايدي العاملة وما رافق ذلك من غضب الشغيلة، الا ان هذه الآلة اصبحت ضرورة ملحة في حياة الافراد لتخفيف اعباء العمل والارهاق عنهم، الى جانب زيادة الانتاج والذي اصبحت البشرية بها حاجة ماسة اليها.
اما أن يصبح الامر (العبودية مقابل الامن)، فهذا شأن آخر ربما لا يقبل به افراد وجماعات او شعوب بوصفه اذلالاً يرافق الانسان طوال عمره، بينما الامن حالة يمكن للانسان أن يحمي نفسه منها اعتماداً على الدولة التي اختارها بنفسه وان يكون حذراً من خصومه في الوقت نفسه، الا أن الامر اختلف في هذا الزمن والزمن الآتي الاكثر ضراوة وهيمنة آلية وتقنية على البشر.
إن الولايات المتحدة الاميركية الاكثر تطوراً باتت ترصد المخالفين للقوانين والمشردين والمتعطلين والارهابيين والهاربين من الخدمة العسكرية عن طريق هذه الشريحة الصغيرة جداً، والتي تزرع تحت جلودهم بحيث اصبحت وبسهولة تتبعهم وترصدهم وتصطادهم. 
لقد تمكن شاب اميركي في العقد الثالث من عمره يدعى (ادوارد جوزيف سنودن)، الذي كان يعمل في الاستخبارات المركزية الاميركية من اختراق كل الاسرار المتعلقة بـ (35) زعيماً عالمياً وتجسس على هواتفهم وخصوصياتهم، وهو الذي كان يقول: "لا أريد أن أعيش في عالم تتم فيه مراقبة وتسجيل كل ما اقول، كل ما افعل ومع من اتحدث، وكل ما أعبر عنه من مشاعر حب او ابداع" تحول في العام 2013 الى ما وصف بأنه (زلزال استخباري) وذلك بتسريبه اسرار الامن القومي الأميركي، الامر الذي جعل أميركا تبحث عن سبل لإيقاف هذا الامتداد الاستخباراتي الذي تمكن من اختراقها!
ومع هذا التحول العجيب والعاجل لدى سنودن الذي كان حسب وصفه: "اردت القتال في العراق لأنني شعرت أن واجبي الانساني يصب في تحرير البشر من الاضطهاد"، فاذا به يتحول الى مبتكر لأحدث اسلوب يتعلق بالاضطهاد والعبودية، بينما كان في العام 2006 مجرد مبرمج للحاسوب، الا أنه طور معرفته وحمايته التي ادعاها للدبلوماسيين الامريكيين، ثم تحول الى شخص يتعامل مع (تحالف استخباري دولي يشمل دولاً بعينها غير منضوية تحت لواء هذا التحالف".
وتطور هذا الاسلوب الى (تكنولوجيات السيطرة على البشر) بحيث أصبح بالإمكان (تغطية كل سنتيمتر من الكرة الارضية) واصبحت الاقمار الصناعية وتقنية الـ RTSI قادرة على رصد كل حركة وتتبع المرء اينما يذهب وكيف يفكر واين يكونن الامر الذي باتت فيه حياتنا اشبه بـ "كتاب مفتوج للجميع" ومثل هذه الشريحة (بذرة الأرز) من شأنها ان تجعل كل مواطن مدجن وليس بمقدوره فعل اي شيء، ذلك انه بات مرصوداً وتحت رقابة مشددة!
الى جانب هذه التقنيات، باتت هناك متغيرات جديدة لمواقع التواصل الاجتماعي برمتها، حيث هيمن برنامج يدعى (برنامج تور) من قبل نخبة من المبرمجين الروس الذين صار بامكانهم اختراق جميع الشبكات ورصد كل الحقائق التي لا يمكن انكارها.
ازاء هذا الواقع التقني الجديد، لا بدّ من اثارة سؤال يتعلق بحقوق الانسان وبالمبادئ الديمقراطية التي ظلت الدول الرأسمالية تعدها الرسالة الأساس في مواجهة النظام الاشتراكي، ذلك ان هذه الشريحة التي تمارس دوراً عبودياً ازاء البشرية سوف لا تبقي على شيء اسمه حرية الفرد ولا خصوصية من خصوصياته، ومقابل هذا الدور الذي تلعبه هذه التقنية، سوف تحقق الامن والسلام، وذلك عن طريق رصدها وكشفها لأي فعل من افعال العنف او الممارسات اللا قانونية للافراد والدول، ترى أي مستقبل ستشهده الشعوب والامم بهذه التكنولوجيا التي ترقب كل فرد في كل لحظة.
ان كتاب "العبودية مقابل الامن/ تكنولوجيا السيطرة على البشر" للباحثة العلمية العراقية المقيمة في هولندا (مواليد 1979 بغداد) والتي تم اختيارها ضمن مئة شخصية مؤثرة في هولندا لعام 2016 والتي تستعد للحصول على اطروحة الدكتوراه في جامعة ماريلاند الاميركية في ادارة الصحة العامة، الى جانب المؤلف الذي رافقها في انجاز هذا الكتاب عباس الزبيدي (مواليد 1979 بغداد) الذي نشر اكثر من (50) بحثاً علمياً حول تكنولوجيا المعلوماتية الطبية. هذان الباحثان وعلى الرغم من غربتهما، قدما هذا الانجاز العلمي غير المسبوق والذي يفترض ان نهيئ انفسنا لاستقبال ما ورد فيه من معلومات وتقنيات علمية حديثة لا سبيل لنا بالخروج منها، بوصفها باتت حقائق ثابتة قابلة للانجاز والتطور اللاحق كذلك.