إن أي نص ابداعي ليس له أن يكون مخلوقاً جديدا بالمعنى الانفصالي التام عما سبقه، وبصورة أدق (نجد أن ما نقوله يعتمد على ما يقوله الآخرون وما قالوه، وما نتوقع منهم ان يقولوه، وتعد محادثاتنا حوارية، وكذلك ابداعنا)، ومن هذا، نجد أبا الطيب المتنبي يقول:
وصرت أشك في من أصفيه لعلمي أنه بعض الأنام
هنا نجد حوارية بوح، فلقد رأى باختين (ان التواصل هو ـ بالدرجة الأولى ـ حوار... فإننا نكتب أو نتحدث فنحن نباشر ذلك مع متلق أو مستمع متمثل في العقل ، كما أن كتابتنا وكلامنا هو دائما مرتبط بتلك الأفكار والمعتقدات التي كانت في الماضي)، ولو أمعنا قليلا لوجدنا جذرا لشك المتنبي، فهو مرتبط بما قيل من شعر في الماضي، وهنا يجد النقد الثقافي نسق الاتكاء على الماضي ليجعله الشاعر جسرا إلى المتلقي، بينما تجد الذرائعية ان التأويل التداولي يشي بالاقتضاء التداولي، فالمعنى الواضح هو ان المتنبي فقد الثقة بمن حوله، لكن هذا لا يمنع من ان نقول ان الناس ليسوا اهلاً للثقة، وفي كلا التشخيصين الثقافي والتداولي نرى أن المتنبي بحاجة شديدة للتواصل، فالتواصل يحقق غاية المتنبي الشخصية، لأن (عملية الحوار هذه تستمر حتى وإن لم نكن بالفعل نتحدث إلى اشخاص، فهي تحدث عندما نكتب أو ـ توسعا ـ مع أي نوع من النشاط الابداعي)، والحوار الابداعي هو رسالة الى متلقٍ وهذا المتلقي من حقه ان يرى صورة الحياة التي ولد في كنفها هذا البيت، ولنأخذ بيتا آخر لأبي الطيب:
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
ولا شك أننا نلمس ترسيخا للخوف، فالهارب لا يكون ضمن مجموعة، لاسيما أن الحرب كانت بالسيوف وليس بالأسلحة الكيمياوية والقنابل النووية، بمعنى أن الهروب انفرادي، وأي انفراد مرعب خوفا من ظهور شخص ثانٍ، فالشك عند المتنبي ليس حاضرا انما هو ماض مموه، كذلك الخوف عند "هاربهم" الذي جاء على لسان المتنبي هو تكرار لمعرفتنا أن السير في مكان خال بشكل انفرادي، يشكل رعبا يصل الى ان المرء اذا رأى غير شيء ظنه رجلاً، وتكرار معرفتنا للشيء لا شك أنه نافع جدا، فمن بعض اشتراطات النقد الثقافي هو أن يكون الناقد الثقافي ملمّا ببعض ما يخص المبدع قبل ان يتناول منجزه، لذا نرى ان الناقد الثقافي يكون ـ على الغالب ـ معنيا بسلوك المؤلف وحياته اكثر من عنايته بنصه الابداعي، لأن النقد الثقافي معنيّ بالنسق المضمر وفضح عملية التسلل الى الغايات بأسلحة بلاغية للتغطية على غاية
مضمرة.