مراوغة وليست حلاَّ!

ثقافة 2021/01/31
...

ياسين طه حافظ
 
كتبت يوماً مقالا بعنوان "ارستقراطية الفن" تحدثت فيه عن المعارض الفنية والكاليهات واللوحات كممتلكات شخصية لدى الموسرين، وكيف أن العامة لا يصلون لها، وإن وصلت فلا ثقافة فنية لنفهمها، فثمة نوعان من الحرمان، حرمان من الثقافة الفنية وحرمان من الفن وانجازاته الابداعية المتقدمة.
أما محاولات العروض الفنية في الشوارع، فهي محاولات ضئيلة القيمة أولاً، لأن ما يعرض في الشوارع، لوحات أو موسيقى او مسرحيات، هي إما هابطة القيمة وإما شائعة معروفة، وهي، وهنا المصاب، للإلهاء والمتعة العابرة اكثر مما هي للفن والافكار. هذه المحاولات استعراضية أساساً، وإن تضمنت حفلات موسيقية في الحدائق العامة أو مسرحيات لمؤلفين (كبار) في الشوارع وعرض بعض الفنانين للوحاتهم على الأرصفة وعلى الجدران ليشهدها الناس.
أبسط أسباب التقليل من اهميتها، ان العابر في الشارع لم يقصدها، وانه في طريقه لشأن آخر. وإذا ما قصدها، فللفرجة السريعة التي لا تترك اثراً فنياً. لذا لم يثبت ان كان لتلك المحاولات فعل تثقيفي ملموس وأنه أحدث تغيراً، المتفرج هنا يقف وراءه هم الخبز ومفردات العيش وإشكالات النظام الاجتماعي وفوضى الشارع، فهي إذن ليست غير محاولات لـ "صنع أٌلفةِ" وألفة مع السطح لا مع الدلالات الا بعد، خلاصة ذلك فهمٌ سطحي للفن ومتعة سريعة لا عمق ثقافياً وراءها. لا نقول عنها غير انها أفضل من لا شيء وإن كانت قريبة من هذا اللا شيء!.
إن التعالي على المشكلة وعدم التفكير بوجودها، هو تهرب مترفين أو إبعاد ما يزعج عن الطريق. وهي بالتأكيد مسألة صعبة، ما يعقدها أن اصحاب الفن ومنتجيه، صالحهم ومنفعتهم في زيادة اسعار لوحاتهم واجور عروضهم التمثيلية والموسيقية، كما اجور زيارات المتاحف الفنية، المنطق الضمني لهم يقول: إننا ننتج لناس متفوقين لا فنياً، حسب هذه الظاهرة المرة، ولكن فنياً ومالياً! فأي فقير يشتري لوحه أو يدفع ثمن تذكرة لاوركسترا؟ تاكيد تلك الممارسة على مدى سنين أنتج مجتمعات مغلقة وانتج ابتعاد الجماهير عما لا علاقة له بخبزهم، فلا فائض لديهم للمتعة أو لتأمل ماهو غير ضروري للعيش.
وبالرغم من كل ادعات الحكومات والأحزاب التي تعني بقضايا الجماهير، ظل الخبراء المستعان بهم والاداريون، يؤكدون العمل لتقديم الفنون وايصالها للناس، من غير أن تكون هناك جهود حقيقية لتقديم الثقافة الفنية ومضمون الفن لجماهيرهم، بل هم ايضاً يؤكدون الامتياز والتفوق الفني ورفعته، وهنا "الارتفاع" مزدوج المعنى، فمثلما هو ارتفاع مستوى الفن هو ارتفاع وابتعاد عن مستوى الشارع والعام! هذا مؤسف طبعاً، نحن مع تقدم الفنون، مع التقدم الدائم والكشوفات الجديدة وايضاً مع ان تعم الثقافة العامة والثقافة الفنية وهذا لصالح الناس كما هو لصالح الفن ومنتجيه، إذ يتسع فضاء وجودهم الفني ويتسع حضورهم وهو ما يسعون جميعا له، لكن النخب والطليعة، عملياً، أهملت التعميم الثقافي، فهي تنتج فناً ولا تعبأ بتوسع فضائه لينال حضوراً في مساحات من الحياة أوسع، علماً بأنها تعمل بين العامة وفي حياة عملية مشتركة للجميع، وقد ظلت في أوساطها الفنية والمدارس التي تسمع وتقرأ عنها وتتأثر بها نعم، ذلك حقهم في تثقيف أنفسهم لكن لن يكون العمل لجمهور أوسع.
وإن كان هناك عوز في الثقافة، فهي مسؤولية أخرى مضافة، ولتكن مسعى الارادات المنتبهة والخيّرة، إن فعلاً واسعاً مشهوداً لم يتحقق مقابل كل الاداعاءات الواسعة، في البلدان المتخلفة ومتوسطة التقدم، الثقافة ليست في صالح الدولة لانها ترتب حقوقاً مدنية مضافة! وهذا سبب يجب ألا يخفى!.
اما علاقات مؤسسات الدولة الثقافية، سواء كانت مخلصة أم مُجامِلة، باللا معين من الفنانين وافتتاح معارضهم وتهنئة هذا أو ذاك، فتلك الأفعال "الكريمة" اداء اجتماعي أكثر مما هي ثقافة أو فن. المسألة ليست فردية لنرحب باللطف والتشجيع أو المشاركة في المعرض وقص شريطه، هذا لطف و"رسمية" طيبة لكن نحن بصدد مشروع عمل يقدم الثقافة الفنية، بأنواعها لفئات أوسع من الشعب!
 لاتشغل الفنون اليوم إلا موقعاً هامشياً إذا استثنينا "الافلام الغرامية" وحتى هذه زهدت بها الافلام الإباحية، استقلالية هذا الفرع المعرفي، الفن وثقافته، لا تعني عزلته. علماَ بان الاحتواء "الاجتماعي، مثلما هو مكوّن أساس للفرد، هو ايضاً مكوِّن، بداهة، للنشاط الفني، كما لكل نشاط إنساني. المهم، وبعد كل هذه العقود من السنين ظلت المساحة الرمادية الفاصلة بين النخبوية والشعبوية قائمة. وما تم 
حتى الآن حل هذا الإشكال ولا رأينا مسعى جاداً لحله، وما نراه ليس إلا مراوغات مهذبة ، تُبقي كلَّ شيء في مكانه 
ولا حل.