ميادة سفر
يتندر البعض بالقول: إننا، كبشر، أحفاد القاتل قابيل وفقاً للأسطورة، كيف لا؟.. ومنذ عقود والعنف في تزايدٍ مخيف، والدماء سفكت قرباناً لبقاء الأقوى ونشر أفكاره وأحياناً "ديموقراطيته" وفق آخر مشجب تعلق عليه دول وصفت بالعظمى، مبررة تدميرها لبلدٍ هنا وآخر هناك، بـ "نشر الديموقراطية!".. هذا على الضفة الأولى، أما على الضفة الثانية فهناك نظرية "إعادة الناس إلى الصراط المستقيم!" حسب ما تتنطح به تنظيمات إرهابية ولدت من رحم هذه المجتمعات التي لم تكُ تعطي بالاً لما يدرس في مدارسها وما يروج من أفكار وصلت بها إلى ما وصلت من قتل وتقطيع وتمثيل بجثث أشخاص لا ذنب لهم إلا "انتماؤهم أو عدم انتمائهم" لتيارات لا تتفق مع منهجها!.
يبدو أنّ التطور الحضاري والتكنولوجي والفكري والاجتماعي لم يساعد في التخفيف من حدة الصراعات والتزايد المخيف في أعداد الضحايا، والتدمير الممنهج لبلدان بأكملها سواء أكان التدمير مادياً، أو معنوياً، بالسلاح والأفكار والمعتقدات.. وعليه، أصبحت أعمال العنف ترتكب تحت ذرائع ومبررات مثالية في تقدير الفاعل الذي يعتقد أن ما يقوم به لا بدّ سيوصل البشرية إلى عالم أفضل.
مع التطور الذي كان يفترض أنْ يقود إلى عالم أكثر رخاءً وأمناً وسلاماً، تغيرت مظاهر وأدوات وأساليب القتلة، فالجرائم وأعمال العنف التي ترتكب اليوم يخطط لها أشخاص يتبوؤون مناصب عليا في دول عظمى، يلبسون أفخم الماركات، ويحملون أحدث أجهزة الموبايل، ويعلقون الشهادات العليا، ويتكلمون لغات عدة، ويركبون أفخم السيارات، والأهم.. يتلبسون لبوس الملائكة والأطهار وأنقياء القلوب!.
تكرار مشاهد القتل، الفردي والجماعي، التي تبثها الشاشات التلفزيونيَّة ووسائل التواصل الاجتماعي، حوّل الأمر إلى اعتياد لدى الكثيرين منا، لدرجة أننا فقدنا كثيراً من إنسانيتنا وشعورنا بالآخرين وتضامننا معهم، حين تعودنا ورضينا بالقهر الذي يمارس علينا وعلى الآخرين، وتعايشنا مع صور وأخبار التعذيب التي تنتشر في غير بلد من العالم.
إلى أين وصلت حالنا من البشاعة واللا إنسانية؟.. واقع الحال يقول: إنسان القرن الواحد والعشرين يقف على حافة الهاوية التي تؤدي إلى أحط أشكال الوحشية؟!.. صار من البديهي الإقرار أننا نظلم الوحوش إذا قارنا أفعال بعض البشر بأفعالها، لأنَّ الوحشيَّة على ما يبدو فعلٌ خاصٌّ بالإنسان، فبينما يقتل الحيوان غريزياً دفاعاً عن البقاء، يتلذذ الكائن البشري بالقتل والتنكيل بجثث ضحاياه والاغتصاب، ثم يجلس مدخناً سيجارة ثم يطفئها في أجسادهم وقبل أنْ يمضي يركلهم برجليه، من دون أي شعور بالوجع والألم والإنسانيَّة، بل إنَّ البعض يرى في ما يقوم به واجباً وأمراً عسكرياً ودينياً وربما "جهادياً".. ولا يتوانى عن تقديم المبررات لجرائمه، التي تتواءم مع العقيدة والأيديولوجية التي غرست في عقله وباتت خارطة طريق له.
في كتاب "التعذيب عبر العصور".. يقول المؤلف مختصراً كل ما يمكن أنْ يقال في حديثنا عن العنف: "الوحوش لا تقتل المخلوقات الأخرى من أجل الرضا والابتهاج فقط، ولا تبني معسكرات اعتقال أو غرف غاز، ولا تعذب أبناء جنسها إلى أنْ تهلكهم ألماً، ولا تستنبط الوحوش متعة جنسيَّة منحرفة من معاناة أقرانها وآلامهم".
بهذه العبارات يمكننا الآن أنْ نسكت عن الكلام المباح، بعد أنْ حاولنا وضع الإصبع على الجرح، فهل تكون صرخة في وادٍ حيث لا حياة لمن تنادي؟!.. نحتاج نحن بني البشر وفي هذا القرن الغني بالتطور و"التحضر" أنْ نطلق حملة لأنسنة الإنسان، وقتل الوحش الساكن في نفوس البعض.. وإذا كنا نقرّ أن الإنسان مفطور على الخير والشر، فلا بد من الإسراع في تفعيل الحيزّ الخيّر من نفس الإنسان لوضع حدٍ لهذا التقهقر والتراجع والخراب، وإلا.. على الدنيا السلام!.. فهل نحن فاعلون؟!.