هل كانت سيمون دي بوفوار {نسويَّة} قدر تصورنا؟

ثقافة 2021/02/01
...

كيت كيركباتريك *
ترجمة: مي اسماعيل
بعد سبعين سنة من اصدار كتاب “الجنس الآخر” (أو- الجنس الثاني، وفق الترجمة الفرنسية) الذي أعاد ابتكار حرية المرأة، استمر إرث مؤلفته “سيمون دي بوفوار” يحمل تناقضات لا ينبغي إغفالها. 
“بوفوار” أيقونة دعت للحركة النسوية، ولم تكتب أهم الكتب النسوية فحسب، بل أهم مرجعياتها على الاطلاق: كتاب “الجنس الآخر”. كانت مفكرة ملتزمة، جمعت الانتاجية الفلسفية والأدبية مع العمل السياسي الواقعي الذي أدى إلى تغيير تشريعي دائم، وألهمت حياتها أجيالا من النساء الساعيات للاستقلالية. 
وكان هذا يعزى إلى حد كبير لعلاقتها غير التقليدية مع الفيلسوف “جان بول سارتر”، التي كانت تبدو كحُبٍ لم يأتِ على حساب حريتها أو نجاحها المهني. ولكن منذ وفاتها عام 1986، صدمت مجموعات من الرسائل والمذكرات والمخطوطات غير المعروفة سابقا القراء الذين ظنوا أنهم يعرفها.. كشفت رسائلها إلى حبيبها الاميركي “نيلسون آليغرين” عمق عاطفتها لرجلٍ آخر، وكشفت رسائلها لسارتر أن عشاقها كانوا شبابا ومن طلبتها (وأنها عاشت علاقات نسائية أيضاً). 
لا شك اليوم أنها حجبت نجاحاتها المهنية المتميزة واخفاقاتها الأخلاقية الخطيرة عما روته في سيرتها الذاتية. إذا ما الذي يمكننا استنتاجه عن المؤلفة بعد سبعين عاما؟ وعلى ضوء ما لم تقله، هل كانت داعية للنسوية كما كنا نعتقد؟
الجواب القصير.. أمر يعتمد على معنى “نسوية”، وأي “بوفوار” علقت في أذهاننا.. ولو فكرنا في إجابة طويلة لاِحتجنا لكتاب كامل. لكن الواضح الآن أن أكثر لحظات بوفوار اثارة للتساؤل لعبت دوراً مهماً في تحويل قناعاتها، وأنها أدانت أفعالها وتخلت عن الفلسفة التي كانت أساس بعض أكثر سلوكياتها الفاضحة مع سارتر شهرةً، وأنها تقلبت ضمن عدة أنواع من “النسوية” خلال مسيرتها المهنية. 
هناك فصول من حياة بوفوار لا تندرج تحت تفسير الجنس المتحرر بقدر ما هي دراسات لحالات التمييز على أساس الجنس، ولكن هناك أيضا أوقات قررت فيها انتقاد الأمور، حتى حينما كان ذلك يعني اتهام نفسها. تطرح حياتها سؤالاً كان عليها أن تعيشه: هل نحن مجموع كل أفعالنا، أم نتيجة أسوأ تلك الأفعال؟ 
 
رفض صاخب
تقييم النسوية أو “أسوأ أفعال” فيلسوفة من القرن العشرين كانت حياتها مسيّسة للغاية ليست بالمهمة السهلة، ففي القرنين الماضي والحالي ظهرت مجموعة متنوعة من النسويات، ناقضت بعضها البعض غالباً، وكثيراً ما ولّدت سرديات تقدمٍ قوية لإظهار كيف كانت جهود الأجيال السابقة (أو حتى الخصوم المعاصرين) كليلة. فحوى سرديات التقدم تلك يتباين كثيراً، وفقا للسياق السياسي والتاريخي: فعلى سبيل المثال، احتفلت بريطانيا بالذكرى المئوية لمنح المرأة حق التصويت عام 2018 (فقط لمن كن متزوجات وفوق سن الثلاثين!)، لكن الفرنسيات لم ينلن هذا الحق الا بعد عقدين ونصف- عام 1944. لذا كان من المثير للدهشة، حين إجراء بحث عن كيفية استقبال كتاب “الجنس الآخر” في فرنسا عام 1949، اكتشاف أن الكتاب (والنسوية بشكل عام)، رفض رفضاً صاخباً على أنه خدعة انقضى زمنها. بالتدريج أفسحت الدهشة مجالاً للشك، حينما برز نمط (فكري) عند اجراء لقاءات معها، وأصبحت بوفوار مرة بعد أُخرى موضع انتقاد لاعتقادها أن.. “النسوية ما زالت موجودة”، وكتابة شعارات تناصر المرأة في كتبها، وإفراد صفحات أكثر من اللازم لتوضيح وجهة نظر النساء.. يسألها المُحاور: “وماذا عن الرجال؟”، وكان أكثر ما أحبوه وجود بوفوار التي تقول لهم ما معنى الوجود مع سارتر.. أي- المرأة التي غذّت نيراناً خيالية بروايات الحب المجاني. 
رغم أن فلاسفة وباحثي الأدب الفرنسي اعترفوا لعقود طويلة بأهمية بوفوار الفكرية واستقلاليتها، فإن عرض حياتها يركز غالبا وبشكل غير متناسب على سِنّي شبابها المبكرة، حينما أبرمت “عهد” الرومانسية الأسطوري مع 
سارتر. 
فذات يوم عام 1929، قرب متحف اللوفر، قرر الاثنان أن تكون علاقتهما مفتوحة، ولكن من دون التخلي عن الآخرين، فقد كانا “ضروريَين” لبعضهما البعض (كما قالا)، لكنهما سيحتفظا بالعشاق “العرضيين” على الجانب.
كانت تلك اتفاقية غريبة طالما أدهشت القراء. لكن انتباها أقل انصبَّ على فحوى فلسفة بوفوار الخاصة، قبل وبعد لقائها بسارتر، وهذا هو البُعد الموجود في الرسائل والمذكرات المنشورة حديثاً الذي جعل تلك المنشورات أكثر أهمية لاعادة النظر بحياتها وإرثها. وسواء لُطّخت سمعتها أم لا، كانت بوفوار امرأة أعلنت أن حياة النساء لا ينبغي اختزالها بالمغامرات العاطفية، لكن جرى اختزال حياتها (وبإصرار) إلى مجرد مغامرات عاطفية.. لقد أغضبت أقوالها عن النسوية الناس باستمرار، فإذا كانت خدعة انقضى زمنها، فما الذي يجعلهم يغضبون إلى هذا الحد؟ 
الفيلسوفة خلف الأسطورة
خلف الشخصية الأسطورية هناك فيلسوفة أرادت للنساء أن يكُّنَ.. “أحرارا ليخترن أنفسهن”، وآمنت أن البشر هم.. “مجموع أفعالهم”، وأن من المثير للاطمئان الاعتقاد أن لكلا منا مصيرا مرسوما مسبقا، وسببا فريدا لوجودنا يبرر وجودنا. لكن هذا سيكون أيضا أمرا زائفا، فبالنسبة لها كل كائن بشري هو “صيرورة” من دون خرائط
مسبقة. 
بدأت بوفوار بتبني هذا المنظور أواخر عشرينات القرن الماضي، قبل لقائها بسارتر، وبدأت بنشر اعتراضاتها الفلسفية عليه في الأربعينيات، ولكن حينها كان كلاهما قد أصبحا مشهورين في فرنسا، وغالبا ما كان الفضل يُنسب اليه في آرائها. أما خارج فرنسا فكانت النصوص المهمة من كتاباتها تترك من دون ترجمة. طورت بوفوار قواعدها الاخلاقية بعد أن نبذت المنظور الذي دعم علاقاتها مع النساء في عقد الثلاثينيات وأوائل الاربعينيات. وتلك الاخلاقيات ستضع أيضا الأسس الفلسفية لكتاب “الجنس الآخر”. هنا ادّعت أن الرغبة بالشعور أن وجود الانسان “مُبرَّر” تؤثر على النساء بشكل مختلف عن الرجال، لأنه يُتوقع من النساء تبرير وجودهن بواسطة حبهن للآخرين. 
جادلت بوفوار أن كيان المرأة أمر صعب بعدة طرق، لأن التاريخ والأدب والتحليل النفسي والبايولوجي قدّم النساء على أنهن أساطير عن الأنوثة لاتتوافق مع أحد، بدلا من تشجيعهن على أن يكن بشراً احراراً قد يقعون في الخطأ، وانسانيات تماما. 
وصفها منتقدوها عام 1949 بأنها معادية للنساء والامومة والزواج، ولكن رغم أنها اعتقدت أن العمل يساعد المرأة اقتصاديا، لكنها لم ترَ أن العمل بحد ذاته يمكنه تحرير المرأة، ولا أن الزواج والأمومة أمورا لا قيمة لها. كان هدف كتابها مساعدة النساء على صقل الثقة بمنظورهن الخاص للعالم، والتعرف على قيمة حريتهن الذاتية (التي اسمتها لاحقا- العلاقة مع النفس). ولأن النساء (حسب رأيها) لا يستطعن تحقيق جميع الاساطير عن الأنوثة، فكن غالباً ما يشعرن بأنهن فاشلات. وعوضاً عن سؤال أنفسهن عما يردنه لحياتهن، كن يوبخن أنفسهن لأنهن لم يصرن كما يريد الآخرون. 
 
مواجهة الفشل
كانت روايات بوفوار غالباً عرضة للانتقاد لأن شخصياتها النسائية لم يرتقين لمُثُلها النسوية، ولكن بعد تصنيف الصور النمطية الخانقة للأنوثة، لم ترغب الكاتبة بتزويد صالات عرض جديدة بصور أسطورية قمعية. ولم ترغب بالكتابة عن “نساء قويات” يعززن مشاعر النساء بالانقسام وضعف الأهلية. وفي حقبة كانت فيها الاحتماليات لحياة النساء مقيدة بشكل مختلف عما هي عليه اليوم، أرادت لقارئاتها أن يستطعن الحلم، والفشل، والحلم ثانية، دائما ضمن معرفة أن الاخفاق لن يجعلهن فاشلات. 
مهما كان عليه الحال، فإن نسوية بوفوار لم تكن ذات نمط “انتصاري”، وستراتيجيتها الأدبية من النوع المُخاطِر حينما اتجهت لكتابة قصتها الذاتية. وعبر أجزاء سيرتها الذاتية الأربعة أخفت أوقاتا فشلت فيها أن ترتقي لمستوى معاييرها الخاصة، واخرى تجاوزت فيها حتى أحلامها المتعلقة بشخصها. لم تسع بوفوار أبدا لتكون المرأة التي كتبت دستور النسوية، واحتوت الحياة التي عاشتها قبل ذلك عدة أشياء تمنت أن تكون خلاف ما هي عليه. لكن المغزى من “الصيرورة” هو أنه لا يمكنك التراجع عن الماضي، بل يمكنك إعادة التفكير بمعناه بينما تنظر للمستقبل. 
حينما كتبت بوفوار عن حياتها اقرّت بوجود بعض “التحفظات التي لا يمكن تفاديها” والتي منعتها من الحديث عن كل شيء، ولم تُخفِ حقيقة أن حياتها باتت مشوهة بسبب ما حذفت. ولعل هذا أحد الاسباب أن قراءة سيرتها ثانية أمر مشوق على ضوء ما ظهر لاحقاً. جاءت كلمة “مشوهة” من كلمة “torquere” اللاتينية، وتعني- الالتواء والتعذيب. اضطرت بوفوار الإنسانة للعيش مع شخصيتها العامة المشوهة لعقود طويلة، وأحيانا كانت تبعات ذلك ملتوية ومخيفة. ولكن سواء كنا نحب “النسوية” الانتصارية أو السيرة الذاتية الشفافة، فإن ما تركته بوفوار في تاريخ النسوية أمر يستحق البحث، لا التجاهل. بسبب أعمالها وافكارها، وأيضا للطريقة التي جرى بها استخدام ما قامت به لإلهاء الناس عما كانت تفكر فيه. 
 
*صحيفة الغارديان البريطانية