يشكل الكتاب (الرواية سردا ثقافيا سيسيولوجيا الثقافة وأرخنتها وتسييسها) للدكتور سمير الخليل إضافة مهمة في النقد الثقافي اذ يقترح فيه أن تقرأ الرواية على أنها سرد ثقافي، وتأتي مفاتيح العنوان الرئيس (سيسيولوجيا، أرخنة، تسييس) لتشكل البؤرة التي ينطلق منه النقد التطبيقي في الكتاب، من خلال موضوعات (إشكالية الهوية والذاكرة التاريخية والمكان الثقافي والآخر والطغيان والهامش والمتن وثقافة التواصل والثورة والسياسة والصراع) في خمس وعشرين دراسة لعشرين روائيا وروائية واحدة وكتاب واحد، وقد تضمن الكتاب دراستين لكل من (عباس لطيف وسعد محمد رحيم وخضير فليح) كما تضمن الكتاب دراستين قامتا على عملين روائيين لكل من (علي بدر وشوقي كريم) ودراسة واحدة لروائي سعودي هو محمد حسين علوان.
المكان وتحولاته الثقافية في رواية (ملائكة الجنوب) لنجم والي:
ينطلق الدكتور سمير في دراسته لهذه الرواية من المكان وتحولاته بوصفه نسقا ثقافيا تتكشف فيه الأحداث والرؤى التي تعكس شخصية الروائي وميوله الأيديولوجية، فـ (عماريا) هي المكان الذي تمحورت فيه وعليه الرواية برمتها". والثقافة التي ينشدها نجم والي تنويرية علمانية تمحو كل أثر للتأليه، والرواية تتكشف من خلال سارد عليم يتمتع بقدرات كبيرة ونرجسية عالية ومركزية شديدة، ولما كان المكان النسق المهيمن والمسرح الذي تتحرك فيه الشخصيات وتتكشف فيه الرؤى، فإن الخليل يقف عند ثلاثة أماكن اهتم بها نجم والي (مقبرة الإنكليز والاستراحة ومرقد النبي العزير) بما تحمله من دلالة تعكس فكر الروائي وميوله، أما المجتمع فإنه ليبرالي ارتبط تشكله تاريخيا بدخول الكولونيالية البريطانية، وقد تطابقت هوية السارد العليم هارون والي مع هوية المؤلف الحقيقي الروائي نجم والي، فضلا عن التركيز على الاقلية اليهودية وشخصياتها وعاداتها وصناعاتها، لتعطي انطباعا أنها رواية يهودية يعاني مؤلفها وساردها العليم من ثقل جبل سيناء الرابض على كاهله، وهذه القراءة في السرد والشخصيات والمكان تكشف عن النسق المضمر وهو قناعة الروائي المطلقة بالآخر، ويشير الى إشكالية الشخصية المحورية (هارون والي) في حبها لليهود، خيرين كانوا أم أشرارا، فهي مأزومة تعيش في عالم متناقض، ويؤكد ذلك عودتها مع القوات الإنكليزية 2003، وحضوره احتفال القوات المحتلة، والحكاية المبثوثة في الرواية توضح الدلالة التاريخية والمحلية للوقائع والملابسات التي حفل بها النسق المكاني، فالمكان يكشف النسق المضمر الذي تتحرك فيه شخصية هارون، فالرواية ممارسة ثقافية تتطلب المعرفة للوصول الى الأنساق المضمرة، مما يتطلب عدم قراءة الخطاب اللغوي ببعده الجمالي فقط، بل الوعي بالسياق الثقافي.
الواقعة الثقافية في رواية "آخر الملائكة" لفاضل العزاوي:
تأتي قراءة الدكتور سمير لهذه الرواية بوصفها واقعة ثقافية ذات بنية ملحمية، يتقاطع فيها الواقعي بالخيالي؛ لذا يرى ان القراءة النصية الأدبية لايمكنها ان تكون فاعلة وقادرة على تفسير الاثارة والمتعة والرؤى في هذه الرواية؛ وذلك لأن النسق المهيمن فيها هو الثقافة اذ اعتمد فيها العزاوي الواقعية السحرية في أعلى مستوياتها، وقدم صورا مجسمة وغنية للثقافة العراقية متجسدة في مدينته كركوك التي تعكس واقع العراق في تعدد القوميات والديانات والطوائف والامزجة الذي يجب ان يكون متعايشا سلميا.
والعزاوي هنا لا يكتب مذكرات له أو لـ (كركوك) أو لحقبة (الخمسينات) بل يسرد ثقافة شكلتها ذاكرة الراوي بما حملته من رؤى وتصورات وأفكار وذاكرة الزمكان الذي تختلط فيه مصائر الناس في أحداث واقعية مثل السائق حميد نايلون، الذي يتحول الى ثوري بعد أن فقد عمله لدى شركة النفط البريطانية، وأخرى خرافية مثل الصبي برهان عبد الله صاحب الموهبة الخارقة، الذي تواصل مع ثلاثة ملائكة يظهرون في شكل رجال كبار في السنّ، يكون لهم فيما بعد تأثير في مسرح الاحداث، اذ يتضح أنَّها قوى ظلامية وشيطانية وهنا يستشرف العزاوي ما ينتظر المجتمع العراقي، ففي عودة برهان عبد الله بعد ما حل بالعراق وكركوك من أحداث يتقاطع الواقع بالخيال ويختلط الواقع بالذكريات والحلم ("ربما لم ينحسر الربيع تماما عن المدينة كلها “ولكنهم كانوا يقصفون مدينته بالقنابل الذرية والكيمياوية ...رأى الشمس تشرق من الغرب ولكنها بدت له شمسا أخرى مريضة تذكر المرء بأن كل شيء الى زوال).
ويقف د.سمير في الرواية عند الجملة الثقافية التي تختلف عن الجملة النحوية ذات الدلالة الصريحة أو الجملة الأدبية ذات القيم البلاغية والجمالية بما تحمله من دلالة ثقافية متولدة عن الفعل النسقي في المضمر الدلالي للوظيفة النسقية، فالجملة (ان العفاريت تتبع الفقر واللصوص يتبعون العفاريت) مسؤولة عن صياغة عقل الصبي (برهان) السارد العليم والشخصية المحورية ومنظر الثورة، والترجمة الثقافوية والشعبوية لهذه الجملة أن الخرافة تصنع الفقر والفقر يصنع الخرافة، فهناك علاقة جدلية بين الفقر والخرافة، وقد مثلت هذه الجملة الثقافية الرواية ككل فصارت بسببها وبسبب جدلها المادي المحض أكثر من رمزية ثقافية للواقع.
(رواية منازل ح 17) لرغد السهيل من النسق الثقافي الأنثوي الى البحث عن المخلص:
يتناول د.سمير رواية (منازل ح17) للروائية رغد السهيل من خلال النسق الانثوي المهيمن في الرواية فهي الرواية الوحيدة من بين الأعمال التي تضمنها الكتاب التي كتبتها امرأة، منطلقا من فكرة البحث عن الخلاص التي حاولت الروائية رغد السهيل طرحها من خلال الشخصية المحورية في الرواية (قمر الزمان) اذ كانت فكرة الخلاص تراودها منذ الصغر عندما سألت أمها (أيمكن ان يكون المخلص امرأة يا أمي) ، ويصف الرواية بـ (الخلاصية) فهي تتحدث عن سيدة ورعة اطلعت على تجارب الشعوب، وقامت ببحوث مقارنة عن حقيقة (المخلص) (أبحث عن المخلص في الأديان)، وقد كانت تدعو الى تبني مفهوم جديد لفكرة المخلص، تكاد تتفق عليها الأديان السماوية والأرضية وان اختلفت مسمياته وأساليب
ظهوره.