اسمي طاعون

ثقافة 2021/02/03
...

جمال العتابي 
 
 
تمضي دقائق من الصمت الملفّع بتساؤل يرسم لي صورة جديدة لأستاذ الكرافيك، لم تكن مألوفة لدي من قبل، ثمة طلبة يمزحون بلا مبالاة، وطالبات بملابس ملوّنة يواصلن همساتهن بخفة وابتهاج، وممرات البناية تزدهي بالوجوه المتأهبة للحب، كنت أزداد رغبة في الاقتراب من أستاذي رافع، الذي وقف أمام تمثال جبسي توسط ساحة البناية المشمسة، تجاوزتُ نقطة التردد، وبادلتهُ التحية، انفرجت شفتاهُ عن ابتسامة عريضة، أبانت أسنانه الناصعة
 البياض. 
تعال عيني.. يا جميل.. يا ولد يا حلو، بهدوء بدأ الأستاذ رافع الحديث معي، وهو يغمض إحدى عينيه، أمسك بكتفي، كانت يده حنونة دافئة، وبصوت خافت يقول: أنت يا كامل أحد طلابنا المتميزين، إمكاناتك الجيدة في رسم الكرافيك، تؤهلك ان تتطور، وتنضج تجربتك مستقبلاً، فلدي هاجس يقول إنك ستكون فناناً تشكيليا يشار له بالبنان، لكن ثمة مشكلة تكمن في اسمك، حاول ان تعالجها منذ الآن يا كامل. قالها الاستاذ بجدٍ وحزم. استجبت لنداء أستاذي بخفة روح، وهو يمسّد شعره المجعّد بلطف وحنان فائقين، بعد أن استفز وعيي على نحو مباغت، أطرقت مستغرقاً في التفكير، اعتدل جسدي، وسألته بصوت يكاد يختفي من الدهشة، ما المشكلة يا معلمي؟ أسمك يا كامل؟! أسمك، ما الجديد في كامل سعدون؟؟ آلاف البشر في هذا البلد يختارون أسماءً مكررة، مستهلكة، لا تميزك عن الآخرين، انتبه يا كامل، طاعون أسم جدك سينقلك إلى التحليق عالياً، مختلفاً، طاعون سيمنحك الشهرة، (صلي) لطاعون منذ هذه اللحظة، سأناديك منذ الآن: كامل طاعون!! تعال يا طاعون، اذهب يا طاعون، سيكون طاعون صديقاً حميما لك.
اختلج الصمت على عيني كامل وعلى أنفاسه، في موقف لا يحسد عليه، هزّ رأسه وابتسم ابتسامة مقتضبة، بات ينظر في وجه أستاذه الوسيم، ويتأمله بشغف، وعطرٌ كثيف ينتشر في الأجواء، يولّد لديه رغبة في معانقته. أراد أن يضحك، لكن وجهه تقلص فجأة، انتابته لحظات صمت، هزّ رأسه دلالة موافقة، اعتدل، وقال لأستاذه وهو يقاوم الدهشة: أستاذ، منذ سنوات فكّرت أن أبدأ الرحلة، ولنقل (اللعبة)، حين فاجأني أحد الزملاء بالسؤال: هل أن أحد أجدادي قرأ رواية (الطاعون) لألبير كامو؟ شعرت بالصديق وهو يسخر مني، رأيت في عينيه أكثر من رغبة في الاكتشاف، تطلعتُ إليه طويلاً قبل أن أجيب، طافت برأسي أفكار محمومة، قلت نعم يا صديقي، جدي الثالث قرأ الرواية، وتأثر بأجوائها، واعتزازا منه بالعمل الروائي وكاتبه، سمّى ابنه (طاعون!!)
 هزّ الصديق كتفيه دلالة الجهل، وسألته من جديد، هل تكفي هذه الإجابة؟ أم أن الأمر يحتاج إلى إيضاح آخر؟ تلفّتَ الصديق، بدا حائراً، جاءه الجواب مالم يكن متوقعاً له، حاول ان ينهي الحديث، بصوت حاد النبرات ليخفف حيرته: إذاً منذ ذاك الزمان بدأ الطاعون!! شكرا لك، في تلك اللحظة ذاتها، لم يبق بيني وبين أستاذي رافع حاجزٌ يمنع انفجار الصمت في داخلي، وأنا أقترب منه، لأهمس في أذنه: وطّنتُ نفسي بهذا الاختيار، لدي اعتقاد ان الله سيشملني ببركاته وعطفه. احتملْ هذه التسمية أيها الفنان الواعد، تأمله جيداً، ستجد دفئاً لذيذاً في قابل السنوات، لن تتخلى عنه، ستشعر بمزيد من الاعتداد به، سيكون هويتك، كانت عينا الاستاذ رافع لا تزالان بذلك التدفق السخي، تنظران إلي وحرارة الكلام تتسرب إلي، أضمها لجسدي، أتكور عليها لأني أخشى أن تهفت في داخلي. الظلمة مدّت شحوباً كثيفاً في سماء بلادي... سدّوا منافذ الهواء علينا، وأضرموا النار في الجبهات، يا لقسوة الحروب إذا أنشبت، يا هولها ضياع الأحلام... احمل (طاعونك) معك يا كامل، واهرب، فثمة ما يشلّ أصابعك، ويسلب أسرار اللون فيهما، ويعطّل مشروعك الجمالي، ارحل فالوطن قتيل، وهناك في بلاد الثلج والشتاءات الماطرة سيكون اسمك TOWAN....