مقدمة في علم الكلام الجديد

ثقافة 2021/02/03
...

 د. عبدالجبار الرفاعي
 
  سحرُ الدين وتغلغلُه في أعماق النفس البشرية مدهش، لم أجد عاملًا شديدَ الفاعلية والحضور وذا سطوةٍ وتأثيرٍ ملفت في حياة الناس أكثرَ من الدين في مجتمعنا، كان الدينُ ومازال أحدَ أعمق منابع ترسيخ البنى اللاشعوريّة المكونة لرؤية الفرد والمجتمع للعالَم. 
   رؤيةُ الدين للعالَم وكيفيةُ قراءة نصوصه فرضها في الإسلامِ علمُ الكلام التقليدي، وصنعتها الأنساقُ الراسخةُ لمقولات الأشعري الاعتقادية، ومختلفُ معتقدات متكلمي الفرق. كان لهذه الرؤية الكلامية تأثيرٌ بالغٌ في تعطيلِ الاجتهاد والتجديد في الدين، والانحطاطِ الذي حدث في مجتمعات إسلامية.                                                                                       جاءت الدعوةُ للانتقال من علم الكلام القديم إلى علم الكلام الجديد استجابةً لما فرضته الأسئلةُ الحائرة للإنسان، وقلقُه الوجودي، وشحُّ المعنى الديني الملهم في حياته، وشعورُه بعدم الأمان، في عالَم يتسارع فيه ويشتدّ إيقاعُ تراكم المعرفة واتساعُ آفاقها، ولا يتوقف العلمُ والتكنولوجيا عند نهايات مسدودة، فكما أن الأسئلةَ لا تنتهي كذلك الأجوبةُ لا تنتهي، والمعرفةُ والعلوم والاكتشافات والاختراعات لاتنتهي، إذ تتوالد على الدوام في سياق الأجوبة أسئلةٌ جديدة، وفي سياق هذه الأسئلة تتوالد أجوبةٌ جديدة، وهكذا. 
  الانتقال من علم الكلام القديم إلى علم الكلام الجديد يتطلب دراسة علمية للتراث الكلامي، وذلك يعني التوفر على خبرة ودراية في التعاطي معه، واستلهام روحه الحية، والقدرة على توظيفها في منظومة الأفكار الكلامية الراهنة. وكما هو معروف بين أهل العلم أن الاجتهاد في أي حقل من حقول المعارف الإسلامية مما لا يدركه كل أحد، وذلك لأنه يتوقّف على دراسة جادة ومعمّقة للتراث، ووعي دروبه ومسالكه المختلفة، مضافًا إلى الإلمام بالقواعد والأدوات الخاصّة للاجتهاد في ذلك الحقل. 
فلا يمكن تجديد علم الكلام من دون دراسة وبحث يستكشف مسالك التراث الكلامي المتنوعة، واستيعاب مقولات وآراء المتكلّمين المختلفة. وبموازاة ذلك يتوقّف تجديد علم الكلام على تمثّل روح العصر، والانفتاح على المكاسب الهائلة للعلوم الراهنة، خاصّة العلوم الإنسانية، والتخلّص من الحساسية والوجل أو العقدة في التعامل مع معطيات العلم الحديث، فإن بعض العلوم الإنسانية تطوّرت بدرجة توازي تطوّر العلوم الطبيعية والعلوم البحتة في الغرب، وهي ذات وشيجة عضوية بمناهج علم الكلام ومسائله ولغته ومنظومته المعرفية
 بأسرها. 
  أولُ كتاب نُشِر يحمل عنوان: «علم الكلام الجديد» كان لشبلي النعماني، صدر في الهند سنة 1903. وكما أوضحتُ، في سياق بيان مفهومي للكلام الجديد في هذا الكتاب، فإن عمل شبلي النعماني لا يحمل من الكلام الجديد إلا اسمَه. 
  لم يصل البحثُ عن مشروعية فتح باب الاجتهاد في علم الكلام إلى غايته، لرسوخِ التراث وتصلّبِه وتجذّرِه في البنى اللاشعوريّة، وممانعتِه وإجهاضِه لأية محاولةٍ لعبوره، وانحيازِ أكثر الباحثين والدارسين لعلم الكلام لمقولات المتكلمين القدماء، وتلقيها كما هي بلا مراجعة وتدبر وفحص وغربلة وتمحيص. أكثرُهم يرتاب من الحديث عن الاجتهاد في علم الكلام، لظنه بأنه محاولةٌ للخروج من الدين، فيلتمس مختلفَ الذرائع لرفضه، ويشدّد على الانصياع للمسلمات والمقولات الكلامية الموروثة، ينظر إليها بوصفها مسلماتٍ لا تقبل النقاش، ولا يتعامل معها على أنها اجتهاداتٌ بشرية قالها أئمةُ الفرق والمجتهدون الأوائل في علم الكلام، وكلُّ اجتهاد يفترض أنه قابلٌ للصواب والخطأ.
  انشغلتُ سنوات طويلة في علم الكلام الجديد، وقرأتُ وسمعت البلبلةَ والغموضَ والتشويشَ والالتباسَ في تعريفه، وتحديد مفهومه وموضوعه وأركانه ومرتكزاته، فأدركتُ الحاجةَ الماسة لتأليف مقدمة تحدّد الإطارَ العام لهذا العلم، وتضع المعيارَ الذي يمكن اعتمادُه في تصنيف هوية المتكلم والكلام الجديد، وتوفر للباحثين والدارسين في علم الكلام وفلسفة الدين خارطةَ طريقٍ ترسم المعالمَ الأساسية للكلام
 الجديد. 
  ينطلق هذا الكتابُ من رؤيةٍ تبتني على أنه مادام هناك إنسانٌ فهناك أسئلةٌ ميتافيزيقية كبرى، وهذا النوعُ من الأسئلة لا جوابَ نهائيا لها، وهو ما يقوله لنا تعدّدُ وتنوّعُ إجابات الفلاسفة واللاهوتيين والمتكلمين المتواصلة لهذه الأسئلة، وتجدّدُها في مختلف مراحل تطور الوعي البشري، وفي منعطفات الفكر الفلسفي واللاهوتي والكلامي. 
  تطمح الأسئلةُ والآراءُ الواردة في صفحات هذا الكتاب أن تثري النقاشَ في علم الكلام الجديد، عبر محاورةِ مقولات اعتقاد يعتقد من يعتنقها أنها نهائية، وزحزحةِ آراء جزمية، وإعادةِ النظر في قناعات جاهزة، ومساءلةِ مواقف متصلبة، ترتكز على التعاطي مع اجتهادات الأوائل في علم الكلام كمقولات اعتقاد أبدية، تراها صالحةً في كلِّ زمان ومكان، وترفض إعادةَ النظر فيها مهما تغيّر نمطُ عيش الإنسان، ومهما اتسعت آفاقُ معارفه، ومهما تطورت علومُه، ومهما تقدّمت التقنياتُ المستخدَمة في حياته.
  يبدأ علمُ الكلام الجديد بإعادة تعريف الوحي بنحو لا يكرّر تعريفَه في علم الكلام القديم كما هو. اقترحتُ في هذا الكتاب معيارًا يمكن على أساسه أن نصنِّف مفكرًا بأنه «متكلم جديد»، ويتمثل هذا المعيارُ في كيفية تعريف المتكلم للوحي، فإن كان التعريفُ خارجَ سياق مفهوم الوحي في علم الكلام القديم، يمكن تصنيفُ قوله كلامًا جديدًا، لأن طريقةَ فهم الوحي هي المفهوم المحوري الذي تتفرّعُ عنه مختلفُ المسائلِ الكلامية، ومن أبرزها مسألةُ «الكلام الإلهي» وغيرُها من مقولات كانت موضوعًا أساسيًا لعلم الكلام القديم. 
إن كيفيةَ تعريف الوحي والنبوة والقرآن يتفرع عنها ويعود إليها كلُّ شيء في الدين، لا يبدأ تجديدُ فهم الدين إلا بإعادة تعريف هذه المفاهيم المحورية الثلاثة، في سياق متطلبات الإنسان اليوم للمعنى الديني، واحتياجه لما يثري حياتَه الروحية والأخلاقية والجمالية. في حدود تعريف الوحي وسياقه يتحدّد مفهومُ النبوة، ويتحدّد حضورُ الإلهي في القرآن في حدود مفهوم النبوة. «الوحي والقرآن والنّبوّة هي أصل كلّ شيء، وبقيت العمود الفقريّ للحضارة الإسلاميّة على طول الزّمن التّاريخيّ»، كما يقول هشام جعيّط.                                                                               إن كلَّ من يقدّم تفسيرًا جديدًا للوحي، بشرط أن يكون مؤمنًا بمصدره الميتافيزيقي، يمكن أن يُصنَّف تفسيرُه على أنه علم كلام جديد. 
أما من يقدّم تفسيرًا جديدًا للوحي، لكنه لا يؤمن بالله، أو يؤمن بالله لكنه لا يؤمن بمصدر إلهي للوحي والنبوة والقرآن، فهو ليس متكلمًا جديدًا، يمكن أن يكون فيلسوفَ دينٍ لأن المتكلمَ غيرُ فيلسوف الدين، فيلسوفُ الدين يُفكِّر خارجَ إطار الدين، أما المتكلمُ فيُفكِّر في إطار الإسلام، كاللاهوتي في كلِّ دين وحياني الذي يُفكِّر في إطار ذلك الدين، وإن كان يستعير مناهجَ بحثه مما أنجزته العلومُ والمعارفُ البشرية.
 المتكلمُ كاللاهوتي في كلِّ الأديان الوحيانية يؤمنُ بالمصدر الإلهي للوحي، مهما كان فهمُه للوحي، ومهما كان رأيُه في حقيقته، ومهما كان رسمُه لحدوده، ومهما كانت طريقةُ بيانه في التعبير عنه. كما يؤمن المتكلمُ بمصدرٍ إلهي للقرآن الكريم. وفي ضوء ذلك لا ينطبق  على من يُنكِر الوحيَ والنبوةَ عنوانُ المتكلم. «وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ»، هود 88. جزء من مقدمة كتابنا الجديد تحت الطبع: «مقدمة في علم الكلام
 الجديد».