محمد خضير.. استفهامات السرد المعرفي والشعري

ثقافة 2021/02/05
...

 عادل الصويري
 
 
حتى وقت قريب، كنت أدافع عن (أدونيس) الذي قال في أحد لقاءاته المتلفزة إنه مشغولٌ بالشعر، ولا يقرأ الروايات، وهو الكلام الذي عُدَّ نرجسيّاً، رغم أنه أكد أنه آسفٌ على ذلك لكنها الحقيقة.سبب دفاعي عن وجهة النظر الأدونيسية ليس خاضعاً للمزاج الشاعري فقط، بل لكثرة قراءاتي للمنجزات السردية الحديثة، بما فيها التي حققت جوائز مهمة، حيث رأيت أنها – بانطباع أوَّلي – راوحت بين فانتازيا الفكرة، والمباشرة التقريرية في الترويج لها ما يعني أنَّ فعل الدهشة يبقى واقفاً في منطقة حائرة. لكن دفاعي تقهقر قليلاً، أو لأعترف أنه ارتبك بعد أن قرأت كتاب (بصرياثا) للقاص البصريِّ (محمد خضير) حين بهرني باشتغالاته الضاربة بعمق التعددية الفنية، والتي يقدمها لقارئه بأطباق معرفية وتأملية لا تطرف فيها لجمال شعريٍّ على سرديٍّ أو العكس. في (بصرياثا) يقف محمد خضير على نافذة تاريخية؛ ليطلقَ عصافير استفهامات عن المدن وعن كيفية صناعتها، ويومياتها في الحرب، وولائم مقابرها. وعلى الرغم من اهتمام (محمد خضير) بالتفاصيل البصرية اليومية؛ إلا أنه يُدخلها في فرن وجوديٍّ ملتهب، حتى يجعل قارئه في دوامة لذيذة من السؤال عن الراوي ما إذا كان فيلسوفاً أو صاحب أدب رحلات، إلا أنَّ كل رحلاته عبارة عن سباحة في بصرياثا وعوالمها ومُواطنِها الحالم بالأبدية، المنهمكِ بإيجاد مدينة جزئية تسهم في ابتكار الصورة الكلية والمثالية للمدينة:
«أما الأشياء التي استولت عليها الجدران فإننا نسمعها تئن زاحفة، أو تشرئب بهياكلها من السطوح والنوافذ، الأسِرّة التي أنهكتها الأحلام، والكراسي التي ضعضعها الاسترخاء، والأقداح التي مسحتها الشفاه والمدافئ الخامدة، والدمى التي تقلّصت عنها الطفولة. كان بعضُنا يسير في إثر بعضِنا من دون قصد: إثر الرائحة البشرية، جاذبية الأشياء، وحين تقفز الشوارع فإنَّ الآثار المضيئة للذين غابوا تجذب حواسنا/ ص31»
والسرد عند (محمد خضير)؛ يعتمد على الصورة المتخيلة والمفارقة والمخاتلة وتداخل الأزمنة داخل الحكاية الواحدة. وحضور الشعرية في سرده ليس عبثياً، فهو يقترب من متاهات الانسان الممزق بالأسئلة الوجودية، واستفهاماته المتكررة، وكل هذه الأشياء تفعلها (بصرياثا) بزخم مكثف الشعرية التي ترتكز على محاور تشبيهية مستحدثة، وفلسفية مخففة جمالياً بلغة الشعر، واستفهامية، وهذه المحاور المهمة تشكل اليوم نقطة ساطعة يتحد فيها الواقع بالخيال؛ وذلك لتجنيب السرد المباشرة والخطابية والتقريرية المملة التي غادرتها الكتابة الحديثة منذ عقود:
«وجوه نازفة في السر، في ظلمات منعطفات الشوارع الخلفية، والأزقة التي تتفرع من المركز المظلم كمتاهات. وجوه نازفة غربةً ووحشةً، تساؤلاً ورهبةً، مسكنةً وذلا. تحت الجدران في العتمة، نجرجر ريش أقدامنا، أزهار أجسامنا وأثمارها. مكتظون، ثقيلون، مترنحون، راغبون بلا هدف أو ضمير أو رغبة، بخطوات مستورة ورؤوس طائشة. للحظة تلتقي العيون في الظلام، نكتشف إذّاك شحوبنا، ذهولنا، طيشنا – نحن الأخوة في التعاسة والضياع / ص33».
 
التاريخ ولعبة الظهور والتخفي
 الأجواء التاريخية حضرت في كتاب (محمد خضير)؛ إلا أنه هيَّأ لهذا الحضور بتدابير ومسارات تعتمد الظهور والاختفاء، وكأنه يمارس لعبة الاختباء مع ذاكرته، فمرة يتذكر البصرة، وأخرى يتفكر فيها، وفي الحالتين تبقى صورة المدينة هي الكل الذي يتمحور حوله السرد، خصوصاً في الفصل الخاص بقضاء (الزبير) أحد أشهر الأمكنة البصرية تاريخياً، حيث عمد (محمد خضير) إلى استحضار أمكنة لتدعيم قصديته السردية مثل (وادي السباع)، وشخوص مثل وائل بن قاسط، وأسماء بنت دريم، والأحنف بن قيس، والزبير بن العوام في تداخل فني شيّق بين ماضي الأمكنة والشخوص، وحاضر السارد الذي أراد أن يعوِّضَ القارئ الأشياء التي لم يشاهدها (ابن بطوطة) حين قدم إلى البصرة عام (728 هـ) ولم يُتَح له تدوين كفاية (الزبير القضاء) بالوجود الصحراوي أو «القوقعة الرملية» كما يصفها السارد أو حتى (سور الزبير) وصولاً إلى التحولات المعاصرة (الوادي إلى قبر) و (المربد إلى سوق) و (السوق إلى مصرف ومجلس بلدي)، لكنه لم ينس مطلقاً تشعير علامات المدينة، ومنها الصحراء: «الصحراء كتاب قديم، سارت عليه الأصابع وهرَّأت أوراقَه، بعد أن حفرت الأقلام متونه. الصحراء وحي، ضوء، فراغ، صوت، أثر/ ص94» كما يستشهد بقول (بلزاك): «الصحراء الله بلا بشر».