طالب عبد العزيز
لم نقرأ في موروثنا الثقافي قديمه وحديثه كتباً تحدثت عن انحياز عاطفي، لشاعر أو كاتب، خارج قيمته ومنزلته الابداعية، أو لأسباب غير فنية، لكننا نشهد، ومنذ عقود انحيازا مناطقياً، وآخر قومياً، ومثله ايديولوجياً، واجتماعياً أيضاً، لهذا الشاعر وذاك الكاتب، بما جعل البعضَ منا ينأى بنفسه عن التصدي للظواهر الثقافية نقديّاً، والاشارة لها بما يجب، خشية أن يلحق به أذىً من هذا أو ذاك.
الثقافة تتعرض الى قمع من داخلها، ومن أصدقاء لنا، تدفعهم عواطفُ وحميّة قبلية، لا تمت لمشروعنا الثقافي والفكري بصلة، للأسف. شخصياً، أضطر الى تجنب ذكر أسماء الشعراء والكتاب، في أيِّ حوار يُجرى معي، لأتلافى به الوقوع في مناكدات لا قِبل لي بها، ذلك، ليقيني بانَّ الوسط الثقافي في جانب منه، متشنج، لا يهضم ما يصدر من آراء أو نقود مخالفة، وألاحظ أيضاً في ما أقرأ للبعض، بانَّ غالبية الشعراء والكتاب والفنانين إنما يتجنبون ذكرَ منجزِ أقرانهم، والخوضَ في تجاربهم الابداعية، تقريظاً او تعريضاً حتى، في مجانبةٍ لعبور نهر الخصومات.
لذا، أجد أكثرنا يلجأ في حديثه الى التعميم، والحديث عن نفسه وتجربته الشخصية، دون ذكر أحد، حتى ليفهم من ذلك بانه يقول: أنا، ولا أحد سواي، بينما الحقيقة تضمر غير ذلك. ربما تكون مناسبة المادة هذه ما قرأته لأحدهم في وسائط التواصل، من قول أساء فيه صاحبُه لأستاذٍ، جليلٍ، وأكاديمي، معروفٍ بعلمه وبحكمته، ضمن حوار مشترك، في موضوع نكاد نجمع على صواب ما ذهب اليه الاستاذُ فيه، وتعابير الاساءات لهذا وذاك كثيرة على الصفحات الزرق تلك. وما يؤسف له، أننا صرنا نقرأ مثل هذه ضد أعلام كبار في ثقافتنا، وصار يَنتقصُ منهم كلُّ مُحْدثٍ بيننا، وكلُّ متشنجِ رأيٍّ، ومن لم يخض بقدمه مخاضة الكبار.
لذا، فالأمر في حقيقته، يقتضي منا أن نقول: التبجيلُ والانتقاصُ عملان اخلاقيان في صورتيهما. لكنهما لا بدَّ انهما صادران عن معرفة وفهم، إذ لا يصحُّ تبجيلُ شاعرٍ دونما معرفة بمنجزه، مثلما لا تصحُّ الاساءةُ لشاعر آخر، دونما علم وإحاطة بتجربته. الثقافة في بعض معانيها هي التقويم، ولا تقويم من دون نقد، والنقد ليس من المجاملة بشيء، هو علم قوامه الصدق والمعرفة والامانة العلمية، ولا تقوم ثقافة في لغةِ وأدبِ أيِّ امّة خارج الدرس النقدي الملتزم. كان ابنُ جنّي يُثني على المتنبي فيقول: «وحدّثني المتنبي شاعرُنا، وما عرفته إلا صادقا». بينما كان المتنبي يقول:” ابن جني أعلم بشعري مني” وحين عرض ايليوت قصيدته الاشهر (الارض اليباب) على إزرا باوند، حذف منها ثلثاً، ولمّا نُشرت تصدرتها عبارة ايليوت الشهيرة: “ الى إزرا باوند الصانع الامر».