الرحلة المدهشة في ليلة النار

ثقافة 2021/02/05
...

 هدية حسين
 
 
من منا لا يتمنى رحلة تبعده عن ضوضاء المدن وضجيجها؟ وما أحلى أن تكون تلك الرحلة إلى أماكن نجهلها ونجهل تاريخها لكي نبدأ بالكشف عن الغاطس في مجاهلها، ونصل من خلالها الى جوهر الروح؟ هذا ما فعله الكاتب والروائي الفرنسي إيريك إيمانويل شميت في روايته (ليلة النار) الذي ترك باريس وأضواءها والحياة المرفهة فيها، ودّع حريته وخصوصيته وذهب لأقصى الجنوب الجزائري، حيث الصحراء المسكونة بصمتها والأسرار المطموسة في حبات رمالها، من أجل كتابة سيناريو يقتفي فيه أثر الكاهن شارل دو فوكو فتتشعب رحلته إلى ما يشبه الحلم الجميل المحفوف بالمخاطر، ليهديه ويهدينا هذا الكم من المعلومات والحياة التي لا يعرفها سوى من عاشها في تلك الصحراء الشاسعة، وتحديداً الطوارق الذين لا نعرف الكثير عنهم وعن ثقافتهم.. في ليلة النار سينفتح تاريخ لتفاصيل تلك الثقافة والحياة البدوية والعادات والتقاليد، وما تسبغه الصحراء والمناخ القاسي على حياة الناس، وسنتتبع رحلة إيريك إيمانويل وما شابها من صعوبات، وما خرج به من كشف يستحق المجازفة، تلك الرحلة التي يعتبرها بمثابة ولادة ثانية، هو المولود في العام 1960، أما الولادة الثانية فقد حدثت في العام 1989، والتي عرف فيها الله على سفح جبل تاهات في تمنراست وليس تحت أضواء باريس. تبدأ الرحلة بالطائرة الى مدينة تمنراست (عاصمة الطوارق) إيريك إيمانويل شميت برفقة المخرج جيرار لتوثيق حياة الكاهن شارل دو فوكو والبيت الذي عاش فيه في العام 1905، وهو أول بيت يُبنى في تمنراست ويسكنه هذا الكاهن، فلماذا اختار إيريك هذا الكاهن وليس غيره؟ يبين إيريك في كتابة أن شارل دو فوكو له فلسفته الخاصة ونظرته المعمقة في الدين وفي الحياة، فهو لا يفرض على الناس ديانته المسيحية، محارب قديم ذهب الى الجزائر لا ليحارب ولا ليبشر بدينه، بل ليعيش قرب الطوارق في الصحراء وينقل لنا أساطيرهم وقوانينهم ويضع أول قاموس للغتهم، إنه الحكيم الكوني وبطل زمانه كما يرد في الكثير من الكتابات عنه، ومن خلال تلك الرحلة ستتغير مفاهيم كثيرة لدى الكاتب تنعكس على حياته برمتها. 
من تمنراست الى عمق الصحراء، ينضم الى الرحلة بعض السياح والباحثين، برفقة الدليل الأميركي دونالد، ومع عدد قليل من الجزائريين الذين يعرفون تضاريس المكان، وأبرزهم أبايغور الطارقي، الشخصية الجذابة والغامضة بالنسبة الى إيريك الذي يصفه بشاب جميل ممشوق القد له وجه صقر، وهو الدليل الحقيقي لمجاهل الصحراء، وكلما مضينا في سيرة (ليلة النار) عرفنا المزيد عن شعب الطوارق، ومنها أنهم لا يتحدثون عن أعمارهم، أما لأنهم يعتقدون أن لا أهمية لذلك، أو أنهم يجهلون تواريخ ميلادهم، وأن مكانة المرأة عندهم مميزة (عند الطوارق تستحوذ النساء على الوظائف النبيلة، فهن أمينات القوانين، وكاهنات، وكاتبات، وهن الساهرات على الثقافة) ص53
الكشف عن أسرار الصحراء لا يشمل البشر الذين يعيشون عليها، بل النباتات وأنواعها والغريب منها بتوصيف دقيق، وأيضاً الحيوانات والقوارض والخوف الدائم من الزواحف التي تخرج في الليل بحثاً عن فرائسها، يصف إيريك إيمانويل شميت خوفه فيقول على الصفحة 47 (كنتُ أخاف من العطش، أخاف الجوع والتعب، وأخشى الحيوان الختّال الذي يرمقني أثناء نومي، أخاف العقرب الذي يعشش في جوف حذائي في الليل)
وكلما وجد وقتاً خلال بعض الاستراحات، عاد ليذكرنا بحياته قبل الرحلة، أو ما كان يجول بخاطره من بعض الذكريات، مقارناً بين ما كانه وما سيكونه بعد عشرة أيام من الرحلة التي غيرت فيه الكثير، وسنعرف من خلال ذلك بأنه لم يكن على علاقة وطيدة بالمرآة كأداة نرى فيها وجوهنا وهندامنا، لكن مرآة النفس من خلال مغامرته الصحراوية فتحت له الباب واسعاً ليكتشف نفسه ويغير اتجاهاته في الكتابة وفي الحياة، ويصف لنا ليلته الأولى وما تلاها حتى كاد أن يموت جوعاً وإنهاكاً، لكنه تحملها ليضع نفسه على المسار الصحيح.
كتب إيريك إيمانويل شميت روايته السيرية، بأسلوب أخاذ ينحو في العديد من صفحاته منحى فلسفياً ويأخذك الى اللا محدود في الكون لتتخفف روحك من شوائب الماديات خصوصاً وأن من بين من انضم للرحلة عالمين، أحدهما فلكي والآخر جيولوجي، وتحفل الرواية بحوارات فلسفية لا يمكن نقلها في هذه المساحة لأنها طويلة ومتداخلة وتأخذنا الى الكون في طفولته الأولى.. وكل ما يمكن قوله في هذه الرواية هو أنها باختصار شديد جديرة بالقراءة والتأمل والتطهير والانفتاح على العالم الإنساني، والأهم معرفة الله.