لميعة أخذتْ روحها منْ اسمها ومزجتهما معا فصاغتْ أعذب الشِّعر وأجمل الصّور الغزليّة الفريدة التي تعبِّرُ عنْ أحاسيس ومشاعر الأنثى، مما حدا بالكثير من الأدباء والشّعراء وصفها بما تستحقه كما قال عنها شاعر المهجر إيليا أبو ماضي وهي في (14) عاماً حين نقد قصيدة لها نشرتها مجلة السَّمير اللبنانية سنة 1944: “إنَّ في العراق مثل هؤلاء الاطفال فعلى أيَّة نهضة شعريّة مقبل العراق؟” أو كما أشاد بها المستشرق الفرنسي جاك بيرك: “بأنَّها شاعرة الرِّقة والجمال والأنوثة” أو حين وصفها الناقد علي الفواز: “بأنها كنخلة اجتثت منْ أرضها وهي اللصيقة بها حدَّ الولهْ”.
وحين كنتُ أقدِّم أحد البرامج الثقافية اتصلتُ بها في سندييغو بكالفورنيا لإجراء حوار معها في واشنطن فاعتذرت لأسباب صحيَّة، ولكنّني أحسست أنَّ هناك أسبابا أخرى تخفيها وراء اعتذارها وكنت حريصا على الاتصال بها مرَّة أو مرَّتين في الأسبوع وفي وقت محدَّد بيننا لالتزامها بنظام صحي خاص. وتوطدت علاقتي بها فأخذتْ تبوحُ بما في قرارة نفسها فتحدثني عنْ شعورها بالمرارة وهي تجلس حبيسة شُقة تكرَّمتْ عليها بها بلدية سندييغو للمسنين مع راتب محسوب لقوتِ الأنفاس، غير أنَّها كانتْ سعيدة بما تفيضهُ أخواتها عليها مع أسر أولادها وأخواتها وأحفادها وأحفادهنّ من حنان وجو أسري يغمرها سعادة.
ولكنْ في الجانب الروحي بقيت سعادتها تنزف جراح عقوق وزارة الثقافة والأدباء ماخلا بعض الأصدقاء والمعجبين نعم، ويحقُّ لها أنْ تقول ذلك فما قدَّمته خلال مسيرة عطائها الشعري وما أغنت به المكتبة العربية لا يتناسب ووضعها المعيشي اليوم. وحين أوكلت إليَّ إدارة المركز الثقافي العراقي في واشنطن آثرتُ الاهتمامَ بها والاقتراب منها أكثر لننفض غبار الإهمال عنها ووضعنا في الخطة إقامة مهرجان تكريمي لجميع المثقفين والعلماء والفنانين في ولاية كاليفورنيا وبالتعاون مع رئيسِ الجالية العراقية يوسف داوود والاعلامي وهاب الهنداوي. وأقمنا احتفالية الكفاءات العراقية في لوس إنجليس. وقد حضرت السيدة زوجة الشاعر عبد الوهاب البياتي واعتذرت الشاعرة لميعة عن الحضور لتراجع صحتها بعض الشيء فزرتها في منزلها بعد ذلك وقدمت لها هدية الوزارة وهي على شكل كتاب في داخله ساعة ويقابلها في الجهة الثانية شعار الوزارة مع اسمها منقوش عليها فعلقت قائلة: لأول مرَّة تأتيني هديَّة أستفيد منها وتتناسبُ معي في الفكر والثقافة لأنِّي تعبت من الدّروع الجامدة التي أهديت إليَّ وفتحت باب غرفة صغيرة تكدَّستْ فيها الدّروعُ مع الشَّهادات المهداة إليها منْ جهاتٍ ومؤسساتٍ مختلفة وعلقت بنبرة مليئة بالحزن والفجيعة: بربِّكَ ماذا سأفعل بها؟! لذلك بدأتُ أفكِّر بتكريمها بطريقة مختلفة عن الآخرين. وحين ذهبت إلى بغداد أخذت نسخا من أوراقها لحل مشكلة إيقاف راتبها التقاعدي لسنين وقابلت وزير التعليم العالي الذي أوعز بإنجاز المطلوب ولكنَّ الروتين الإداريَّ المقيت حال دون إكمال المعاملة. وكذلك حل مشكلة بيتها الوحيد في الغزالية حاولت تذليلها ولكنني فوجئت بسيل من الأسئلة أولها وأفجعها: (متجي هيه ليش تراجعلها إنته؟!) مما جعلني أتوقف عنْ كل ذلك وعدتُ أدراجي لاستكمال مهرجانِ تكريمها وبما يليق بآخر عمالقة الشعر العربي الحديث.
واقترحت إقامة احتفال تكريمي خاص يليق بالشاعرة ليعيد إليها ألقَها ووهجَها وحيويتها التي عرفت بها حتَّى اليوم. وبدأنا بالتعاون مع مندوب الجمعية العراقية للثقافة والفنون في سان دييغو المبدع منصور قرياقوس والعمل معا لإقامة المهرجان وبعد جهد استمر شهورا أقمنا الاحتفالية في قاعة قريبة من شقتها بسان دييغو كي لا نجهدها كثيرا، فأبدع النَّحات الكبير علاء الصفار صنع الإناء النذري السَّومري، ومنقوش عليه بماء الذهب بيتان منْ شعرها:
بغدادُ، تائهةٌ أنا حيرى؟ من بعدِ صدركِ لم أجدْ صدرا؟
حتَّى بأحلامي أدوِّرُ لا أرى بيتاً لأهلي فيكِ أو قبرا
فكانت شديدة الفرح وتألقت زهوا وعرفانا بهذا التكريم وطلبت المايكرفون معبِّرة عن امتنانها: الآن وصلني حقي وشاهدت اليوم آخرتي. أطال الله في عمر شاعرة العراق الكبيرة، ونتساءل حتَّى متى يبقى تهميش المبدعين؟ ألا يحق لهم تشكيل هيئة تحتفي بهم وبإنجازهم مثلا، منْ الستين فما فوق ورعايتهم؟ وهذه دعوة لوزارة الثقافة بمناسبة إطلاق هيكليتها الإدارية الجديدة للاهتمام بهم ومتابعة شؤونهم بعد عطائهم الثر، ولكنْ يبدو أنَّ الجسرَ المعلق مازال أمره أمر كما تقول لميعة:
خُلقَتْ جسـورُ الكـونِ موصــلةٌ
إلا “المعــــلّقُ” أمرهُ أمـْـــرُ