ترويج للمساواة بين الأعمال الفنيَّة

ثقافة 2021/02/06
...

ميليسا غرونلند
ترجمة: مي اسماعيل
منذ نحو عام مضى تعهد المحاضر وجامع التحف “سلطان القاسمي” (الذي يُدير مؤسسة “بارجيل” للفنون في الشارقة) أن تكون مجموعته للفنون العربية الحديثة والمعاصرة ممثلة للفنانين من الرجال والنساء بالتساوي. اقتنى القاسمي مجموعة كبيرة من أعمال الفنانات العربيات، ثم طبّق التغييرات الموعودة على أسلوب عرض تلك الاعمال؛ وهي الآن قيد الاستعارة طويلة الأمد لدى متحف الشارقة للفنون.
أقيم المعرض تحت عنوان: “قرن من التدفق: مقتطفات من مؤسسة بارجيل للفنون”، الفصل الثاني. أكمل المعرض (بحلول نهاية العام الماضي) السنة الأولى من المساواة بالعروض بين الفنانين النساء والرجال، لكن هذا القرار يبقى مثيرا للجدل: فماذا يحدث إذا قفز المعرض فجأة لتحقيق تمثيل متساوٍ للرجال والنساء بدلاً من العمل عبر التغيير التدريجي؟ لا بد من القول إن التغيير في اسلوب العرض بات محسوسا؛ إذ تزايد عدد اللوحات التي تقدم نساء يؤدين أدوارا فاعلة ضمن الحياة الاسرية- رعاية الاطفال والعناية بالحيوانات الاليفة وتنظيم 
الاسرة. 
تلك المظاهر تكون عادة بطولية وليست متخمة؛ ومن أمثلتها لوحة الفنانة المصرية “أنجي افلاطون” التي تعود لخمسينات القرن الماضي بعنوان- الأمومة، عن امرأة تُرضع طفلها.
 
النساء يرسمن النساء
تمحور الخط الاساسي للمعرض الاول حول قضايا مثل الصراع وسوء الطالع؛ تمثلت بتقديم صور عن الرعاية.. فهناك لوحة “الجوع- 1963” للفنانة اللبنانية- السورية “درية فاخوري”، التي انجزتها استجابة لموسم الجفاف في سوريا عام 1961؛ وتمثل امرأة تحمل طفلا يتضور جوعا. رسمت الفنانة جلد الشخصيتين بلون أخضر شاحب؛ وبدت الام أكثر مرضا من 
الطفل. 
وهناك صور للرعاية مصورة بأسلوب أقل أيقونية؛ مثل لوحة “امرأة مع طاووسين وحوض سمك - 1968” للفنانة الجزائرية “باية”، ولوحة “طفل مع نبتة هيليوتروبس- 1963” للفنانة التونسية “صفية فرحات”؛ التي تعرض فيها طفل فخور بطائره الاليف. يقول القاسمي: “النساء يرسمن النساء؛ وأحد أسباب عرض نتاجات النساء أنهن يفهمن النساء؛ فهن يرسمن مناظر من مواقف يشهدنها.. الفنانة السعودية “صفية بن زقر” قدمت مشاهد لزفاف النساء وطقوس الحناء؛ بينما الرجال لا يحضرون الى تلك المراسيم.. كيف يمكنك توقع أن يذهب الرجال ليرسموا طقوس الحناء؟” ولكن هل يعني وجود هذا التمثيل الحساس للفن أنه دقيق تاريخيا؟ قد يكون هذا توثيقا دسما؛ ولكن هل هو فعلا النصف المخفي من تاريخ الفن العربي؟ 
تبين أن عرض الاعمال مناصفة بين الفنانين والفنانات لم يكن بالقرار البسيط؛ وأدى الى انقسام الرأي حتى بين العاملين على اعداد المعرض. فبالنسبة لمؤرخة الفن الفلسطينية واستاذة جامعة نيويورك/ أبو ظبي “سلوى مقدادي” (التي أشرفت على الجزء الأول من المعرض سنة 2012 تحت عنوان- قرن من الجريان، وساعدت في الجزء الحالي) فإن التحرك نحو المساواة بين الجنسين يتطلب اعادة مراجعة التاريخ؛ قائلة: “رغم أن المعرض مقدم بشكل جميل، لكنه لا يعرض الواقع؛ الذي هو أكثر تعقيدا من التمثيل
المتساوي”. 
يعني الالتزام بالتمثيل المتساوي المبالغة بتقديم نتاج الفنانات في مراحل من السرد التاريخي لم يكن حاضرات فيه ببساطة، ويعمل على تلميع التفاصيل التي أدت الى منعهن.. وتمضي قائلة: “حينما أنظر الى تاريخ النساء في الفن ضمن سياق المنطقة؛ لا أرى أنهن مهمشات عمدا”. 
 
قوى التغيير
خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين لم يتم تشجيع النساء على اتخاذ مهن، مثل المحاماة والهندسة المدنية والطب، وكان الفن فعليا يعد مجالا مناسبا لهن. 
لكن قدرتهن على المساهمة كانت مُحجّمة بفعل الضغط الاجتماعي ضد الاختلاط مع الرجال؛ مما أبعدهن عن أكاديميات الفنون ومعاقل الجمعيات والجماعات الفنية التي يهيمن عليها الذكور. ولذا كان افتقارهن اللاحق للشهادات الجامعية يعني عدم اختيارهن للمشاركة بالمعارض ولم ينلن التقدير الذي تستحقه أعمالهن؛ كما ترى المقدادي. 
ومع ذلك (كما تقول) حصلت بعض النساء منذ سنوات العشرينات على منح دراسية حكومية ودرسن في أوروبا وانكلترا، وكانت الاكاديميات الفنية المحلية مختلطة التعليم. بحلول الخمسينيات أسهمت الفنانات بالتعليم الفني في الوطن العربي، ونهضت اخريات بقيادة المؤسسات الفنية؛ مثل “وجدان علي” التي أنشأت المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، والراحلة “ليلى العطار” مديرة متحف الفن الوطني العراقي. شجعت المقدادي نشاط الفنانات من خلال تنسيق أول معرض كبير للفنانات العربيات بعنوان “قوى التغيير” في “المتحف الوطني للمرأة في الفنون” بالعاصمة الاميركية واشنطن. أما اظهار أن النساء لم يكنَّ معروفات في ذلك الحين (كما تُجادل المقدادي) فيعني المخاطرة بتهميش النساء اللواتي تحدين القيود. 
 
توسيع ماهية الفن
يُرحب القاسمي برأي المقدادي المخالف؛ لكنه يبقى هادئا أمام جدلية أن عرض بارجيل تحريف؛ معلقا: “من قال إنني غير مهتم بالسرد المألوف؟ فالسرد يقول إن النساء وفناني الاقليات والاشخاص المفتقرين للموارد والصلات والعلاقات لا تعرض أعمالهم. واذا تمسكنا جميعا باقامة معارض تلتزم بالرواية الرسمية؛ فلن يكون هناك تقدم ولا توسع في ماهية
الفن”. 
يقف القاسمي في موقع متميز لاتخاذ القرار، وعلى عكس المتحف الوطني العام الذي يواجه قيودا أقوى من حيث التجارب التنظيمية؛ فإن الاتفاق بين مؤسسة بارجيل للفنون (وهي مؤسسة خاصة) وبين متحف الشارقة للفنون يسمح للأولى بكمية أكبر من المخاطرة؛ بما في ذلك هذا النوع من العمل الإيجابي بأثر رجعي. 
يمضي القاسمي قائلا إنه يرغب أيضا بعرض أعمال أكثر لفنانين من أقليات دينية وعرقية؛ منهم- اليهود والأمازيغ، ويأمل أن تحذو مؤسسات أخرى حذوه: “هل نحتاج فعلا لرؤية المزيد من أعمال بيكاسو؟ نحن غارقون في اعمال بيكاسو؛ لذا قد تكفينا ثلاثة أو أربعة من أعماله، نبدأ بعدها بتوسيع ماهية الفن وعرض أعمال فنانين آخرين.. ((انظروا)) كم ازداد غنى متحف الفن الحديث في نيويورك بعرض (لوحات) “سلوى روضة شقير”؟ (= فنانة لبنانية رائدة. المترجمة)، وكم ازداد غنى البشرية؟ فكروا بالأمر: حقيقة أن يرى الشباب الاميركي أعمال فنانة لبنانية لم تكن معروفة لهم منذ سنوات قلائل.
هنا تكون تجربة الذهاب الى المتحف أكثر اغناءً، ولا يضيع منها شيء”.  
جلب قرار “بارجيل” (باسلوب العرض) فنانين جدد إلى دائرة الضوء؛ خاصة الفنانات العراقيات والمصريات من سنوات الستينيات والسبعينيات؛ وهي حقب نشط فيها اقتناء الاعمال الفنية. ومع أن سد الثغرات في السرد التاريخي للفن هو أيضاً دور تقليدي للمعرفة؛ فقد جرى “تسريع” حضور الفنانين من مرحلة البحث الى العرض المتحفي؛ ما يعني ليس إثبات الحضور فحسب، بل فرصة أكبر لهم ليشاهدهم الجمهور.. وزيادة العرض تقود للمزيد من المعرفة؛ فاسحا المجال في نهاية المطاف أمام المزيد من التفاوتات الدقيقة في المساهمات النسائية (أو غياب تلك المساهمات) أن تكون موضع بحث ونقاش. أما في الوقت الحالي فقد فتح الفصل الثاني للعرض باب النقاش، ووضع نتائج طروحاته أمام الجميع للتدبُّر.. أو لمجرد
الاستمتاع.. 
 
عن موقع {ذا ناشيونال}