فوانيس الشعر

ثقافة 2021/02/06
...

حميد المختار
 يمكنني أن أسير على هُدى هذه الفوانيس في وحشة ليل بهيم، هناك في تلك المفازات الباردة يصهل الشعر محتدما باللغة وهو يغادر مخبأه وبقاياه الباردة وظلال الأقواس الشاحبة متخطياً أفقاً ينزوي برفق في ظلماته المحترقة بالسؤال، تصل الظلال إلى الدم ولتصِل الرعشة الهائمة حدود الحلم وتَجَلّي الجمال الذي يُنبِئ عنها وهي تجلس وتتحدث عن أمنياتها التي تئن وهي تعترفُ شعراً في ديوان (فوانيس عتيقة) للشاعر العراقي (جاسم العلي)، هذا الديوان الذي منحني وهجاً لا ينطفئ من الكلمات التي لها عيون تتلمس شغاف الروح واللهفة والمستحيل، يتمنطق هذا الشاعر المسلح بوعي الكلمة وحكمة الشعر وهو يحمل على عاتقيه خزينا من الرؤى والخيالات والسِّياحات منطلقا من السماء البعيدة بخطاه الموحشة ليعيد للطريق فوضى خطاه هارباً من وحشة المساء التي حلّت بروحه وتفاصيل حكاياه.
جاسم العلي شاعر يختزل الأشياء ويختصر الحدائق في وردة واحدة وحين يحزن فإنه يختصر هذه الأحزان بدمعة واحدة تذرفها عين الشعر ووديانه وهيماناته في وحدة حميمة من التواشج الغني بالمعنى والدهشة والدفء والجنون، (فوانيس عتيقة) خطوة ثانية بعد ديوانه الأول (ومض الأجنحة) الذي مدّه بقدمين عابرتين لحدود القارات الواسعة ليصل إلى متاهة الشعر ببضع كلمات تشكل أيقونة الومضة المقبلة من ظلمة السماء الرحيبة وهي ومضة الشعر المركبة من عالم الخيال المتسامي في لاوعيه وسيرورة روحه، وهي أي الومضة نسق وافد من أنساق الشعر الحديث حملت في بداياته سحر الثلوج والغابات من اليابان إلى أميركا وأوروبا لتصل بعد مدار آفاق وامتداد طويل إلينا ونحن هنا نعيش آفة واقع يلمُّ بكل تفاصيل الحياة المحترقة التي تومض بعينيها القلقتين إلى مستقبل لا يُرى بعين الواقع المنطفئة ولا يُحَس بمياسم جمر الجسد الخامد في أحلامه والمتدفق رؤى متجددة ومتجذرة في مخيلة شعرية امتصت كينونتها من وجود خلاق أنتج شعراً وجمالاً وسرداً وسحراً وحياة لا تنطفئ بالحروب والنار والسُّعار، جاسم العلي جمع كل هذا الألق في فوانيسه العتيقة هذه مخبِّئاً فيها وهج شعره المداف بروحه المستعرة هي الأخرى بهذا الأريج الحار والمتوحد بلغة وخيال وصور رسمتها عيناه المشعتان وهما تنوءان بحلكة العوالم المظلمة، وها هو تراه منطلقا في وحدة الكون المتناغم مع رؤاه الحالمة وهو يرسم بيده نرجسة الوجد والوجود المتلعثم ليكتمل بها حلمه ولتضيء منها المخاوف والاضطرابات التي لا تفارقه وهو في مخبئه الشعري يطلق ومضاته وشذراته كنجوم لا تنطفئ وهي تتجاوز كل المجرات المحترقة وصولا إلى أرضنا وترابنا وموتنا الأليف لنشعر بمطر هذه الفوانيس التي تطفئ كل هذه النار ثم لتضيء الأرواح المنطفئة.