عانت الدساتير، في ظل الدولة العراقية منذ تأسيسها، من انتهاكات أحكامها المتكررة والمستمرة بلا رادع، نتيجة لغياب الرقابة القضائية او عدم ممارسة الجهات، التي تتولى ممارستها لدورها في حال وجودها، حتى أصبحت تلك الرقابة حبرا على ورق، لاسيما ان دستور عام 1970 المؤقت، خلا من الإشارة اليها، فتغولت السلطة التنفيذية بعض أحكامه وتحيفت السلطة التشريعية المتبقي منها، كنتيجة منطقية لسيطرة الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة في تلك الحقبة، الى ان حدث التغيير في النظام الدستوري والسياسي بعد عام 2003، القائم على أساس الديمقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان وأحكام الدستور، ولضمان تطبيق تلك المفاهيم على صعيد الواقع، صدر الامر التشريعي رقم 30 لسنة 2005، المنشور في جريدة الوقائع العراقية بالعدد 3996 في 17 /3/ 2005، الذي تم بموجبه إنشاء المحكمة الاتحادية العليا، كما تأكد وجود المحكمة الاتحادية بأحكام دستور جمهورية العراق لعام 2005، المنشور في جريدة الوقائع العراقية بالعدد 4012 في 28 / 12 / 2005، تتمتع باستقلال مالي وإداري، وتكون قراراتها ملزمة وباتة للسلطات كافة، استنادا لأحكام المادتين (92 / اولا و94) من الدستور آنف الذكر، إذ عدت المحكمة الاتحادية من مكونات السلطة القضائية الاتحادية وورد ذكرها بعد مجلس القضاء الاعلى بالمادة (89) من الدستور، كما بينت المادة (92 / ثانيا) منه تشكيلتها وأعضاءها، وطريقة اختيارهم وعمل المحكمة، وينظم ذلك بقانون يسن بأغلبية ثلثي اعضاء مجلس النواب.
ويحتدم النقاش الفقهي بخصوص التكييف القانوني للمحكمة الاتحادية العليا، فيما اذا كانت تمثل هي هيئة قضائية ام هيئة سياسية، وهل انها مستقلة عن مجلس القضاء الأعلى، نتيجة لاستقلالها المالي والإداري، ومن يتولى ترشيح اعضائها في ظل الامر التشريعي الخاص بتأسيسها آنف الذكر وقانون مجلس القضاء الاعلى رقم 45 لسنة 2017؟
ونرى أن من يصف المحكمة الاتحادية العليا من الفقه بأنها هيئة سياسية، من شأنه أن يحرف المحكمة الاتحادية العليا عن الغاية، التي وجدت من اجلها والهدف الذي سعى المشرع الدستوري الى اقراره بصلب الوثيقة الدستورية من خلال النصوص، التي تطرقت الى وجودها وتكوينها لحماية الدستور من الانتهاك التشريعي تطبيقا لمبدأ سمو الدستور وعلويته على القاعدة القانونية التشريعية لضمان وجود دولة المؤسسات، وبما يحقق انتظام عملها واستقرارها باطراد وديمومة بلا تعطيل او انقطاع، كما ان ذلك الوصف المشار إليه آنفا، من شأنه أن يفرغ المحكمة الاتحادية العليا من محتواها الدستوري والقانوني، بلا مبرر ويقلل من اهميتها وقيمتها القانونية العليا حتى تخضع للتجاذبات السياسية والأهواء والميول، خلافا لأحكام المادة (88) من الدستور، التي نصت على ان (القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء او في شؤون العدالة)، كما ان ذلك يتعارض مع ما يتمتع به شخوصها من صفات قضائية، وعلى أساس ما تقدم فإن التوصيف القانوني السليم للمحكمة الاتحادية، هو انها هيئة قضائية بكل ما تحمله الصفة القضائية للهيئة من معنى استنادا للأحكام الصادرة عنها في مرافعة وبناء على دعوى تقام امامها من ذي مصلحة تطبق بخصوصها أحكام قانون المرافعات والقوانين الساندة الاخرى بالقدر، الذي ينسجم مع خصوصيتها المنصوص عليها في الامر التشريعي الخاص بتأسيسها وأحكام الدستور، بمناسبة صدور قانون متعارض او منتهك لأحكام الدستور على سبيل المثال لا الحصر، اضافة الى اختصاصاتها الاخرى المنصوص عليه في المادة (93) من الدستور انف الذكر، ولذا فهي هيئة قضائية ذات طبيعة خاصة، إلا ان تلك الخصوصية لا تنفي عنها صفتها باعتبارها هيئة، كما لا تنفي عنها صفتها القضائية، وبذلك فإنها تتماثل مع بقية الهيئات القضائية التابعة لمجلس القضاء الاعلى، ولما كان مجلس القضاء الاعلى يتولى ادارة شؤون الهيئات القضائية استنادا لأحكام المادة (90) من الدستور، الأمر الذي يقتضي ادارة شؤون المحكمة الاتحادية العليا بعدها هيئة قضائية من قبل مجلس القضاء الاعلى بقدر تعلق الامر بترشيح وتعيين أعضائها، ولا يقدح في ذلك القول انها مستقلة ماليا وإداريا، ذلك ان هيئة الإشراف القضائي ورئاسة الادعاء العام استنادا لقانون كل منهما يتمتعان بذات الاستقلال المالي والإداري، شأنهما شأن المحكمة الاتحادية العليا، وانهما من مكونات السلطة القضائية الاتحادية بموجب المادة (89) من الدستور المذكور، التي يتولى رئاستها رئيس مجلس القضاء الاعلى، كما يمارس مجلس القضاء الاعلى صلاحياته في ادارة شؤونهما اسوة بالهيئات القضائية الاخرى التابعة له.
وبغية معالجة الفراغ القانوني الناتج من الغاء نص المادة (3) من الامر التشريعي رقم 30 لسنة 2005 والمادة (3 / ثالثا ) من قانون مجلس القضاء الاعلى رقم 45 لسنة 2017، ولحين اقرار مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا من قبل مجلس
النواب، ولمواجهة تعطيل تشكيل وانعذقاد المحكمة الاتحادية العليا نتيجة عدم اكتمال نصابها، بسب ما اصدرته المحكمة المذكورة عن قرارات دون ملاحظة ان ذلك الالغاء للمادتين المشار اليهما انفا، يجب ان يتم في مشروع قانونها عند اقراره لا بموجب قرارات صادرة منها، تسببت بخلق حالة من الفراغ التشريعي وتعطيل عمل مرفق عام متمثل بها، وما ترتب على ذلك من نتائج من شأنها تعطيل المصادقة على نتائج الانتخابات المبكرة، اذا ما استمر وضعها على ما هو عليه، لذا ندعو المشرّع العراقي الى تشريع قانون مستقل عن مشروع قانون المحكمة الاتحادية في الوقت الحاضر، كإجراء احترازي، لا يستلزم لإقراره موافقة اغلبية الثلثين وإنما الاغلبية البسيطة (نصف + واحد)، بالإمكان الغاؤه اذا ما تم تشريع مشروع قانون المحكمة الاتحادية، من شأنه معالجة الفراغ القانوني الناتج عن رغبة المحكمة الاتحادية في تعطيل تشكيلها وانعقادها بإرادتها، لغايات شخصية، يتم بموجبه منح مجلس القضاء الاعلى صلاحية ترشيح وتعيين قضاة المحكمة الاتحادية العليا وإدارة شؤونها تطبيقا لنص المادة (90) من الدستور المذكور انفا، ويتم فيه تحديد السن القانونية لتقاعد أعضائها أسوة بقضاة محكمة التمييز الاتحادية، لعدم توافر القابليات الذهنية والجسدية في القاضي بشكل عام اذا ما تجاوز السن القانوني للتقاعد، ما لم يثبت خلاف ذلك استنادا الى تقرير طبي صادر من لجنة طبية مختصة، لاسيما أن تعطيل عمل المرافق العامة ومنها المحكمة الاتحادية العليا والحيلولة، من دون الانتفاع من خدماتها والقيام بواجباتها يعد فعلا مجرما يعاقب عليه قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل.