أبو گاطع الانتماء للإنسان

ثقافة 2021/02/07
...

لؤي حمزة عباس

على الرغم من الصلة الفاعلة بين الثقافي والأيديولوجي في الأدب العراقي، منذ نماذجه المبكرة مع تأسيس الدولة في عشرينيات القرن العشرين، هذه الصلة التي ألقت بظلالها على مختلف نماذج الإبداع، فقد مثل حضور شمران الياسري (المولود في قرية محيرجة، الكوت عام 1926) ظاهرةً فريدةً في صعود هذا الترابط في نسغ الحياة ليحقق الأثر الأبعد في وعي الناس، وتجديد سبل إدراكهم لتجاربهم وأحوال حياتهم. وإذا كان الدور الاجتماعي للأدب قد عاش طويلاً بين تجلٍ وانحسار لأسباب وعوامل فردية وجماعية، فإن هذا الدور قد وجد تجليه الفعلي مع كتابة شمران الياسري المبكرة التي يبدو من الصعب اليوم الإقرار ما إذا كان الوعي الأيديولوجي قد أخذه نحو وعي الكتابة أو العكس، فكلٌّ من الأدبي والسياسي يشكلان، في حالة شمران الياسري، طريقاً واحداً ويتطلعان لوجهة واحدة، وهما يعملان معاً على تحقيق هدفهما الأبعد في حياةٍ حرّةٍ كريمةٍ عادلة، وذلك هدف شمران، الفلاح المقبل من ريف الكوت إلى العاصمة حاملاً في جنباته إرث الإقطاع المرير، ليجد فرصته الأولى للتعبير بعد 14 تموز 1958، من خلال إعداد وتقديم برنامج إذاعي بعنوان (أحجيها بصراحة يبو گاطع)، الذي أعلن ولادة (أبو گاطع) الشخصية الشعبية الأوفر حكمةً والأوضح صوتاً في سرديات الهامش العراقي، ثم تحوّله بعد توقف البرنامج إلى جريدة (اتحاد الشعب) لكتابة عمود بعنوان (بصراحة أبو گاطع)، ليواصل الكتابة، بعد إغلاق الجريدة، في جريدة (طريق الشعب) حتى توقفها عام 1979 مع صعود صدام لسدة الحكم في العراق، ليجد خلال ذلك تحققه الأهم في إصداره رباعية أبو گاطع التي بدأها مع (الزناد) عام 1972، للتتوالى بعده الأجزاء الثلاثة التالية (بلابوش دنيا، غنم الشيوخ، وفلوس أحميد)، لتكون متوالية الوعي، ولادةً وتشكلاً، في ريف العراق منذ تأسيس الدولة حتى التحول الجمهوري في العام 1958، وقد عمل شمران الياسري فيها على تقديم أنموذج قادر على التعبير عن إنسان الريف بهمومه وأحلامه وتطلعاته، مثما أنجز صياغة أنموذجية للحياة تحت نير الإقطاع وعبودية الفلاح، مقدّماً رؤيته للتجربة الإنسانية في جوانبها الاجتماعية، بنسيجها العشائري، ومحكياتها، وعاداتها وقيمها، قيم التسامح والنزاع، والحب والتكاره، مؤسساً حواراً مؤثراً لاجتماعية الصوت الإنساني، وصولاً لحكم عبد الكريم قاسم، وخلال هذه الفترة أصدر مجموعته القصصية الوحيدة (ثمن ملح الخبز وحكايات أخرى) في العام 1974، ليمكن الحديث عن السرد العراقي قبل شمران الياسري وبعده، فقد كان شمران لحظةً إبداعيةً فاصلةً في تاريخ هذا السرد، وقيمةَ تنويرٍ أدرك فيها، على طريقته، طبيعة الاتصال بين الثقافي والأيديولوجي، وقد حمل كلٌّ منهما جانباً أساسياً من جوانب سيرته التي تُستعاد اليوم بإعادة قراءة أعماله والبحث في انتمائها للإنسان. إن الروح الصادقة التي أنتج شمران الياسري من خلالها أدبه، حمّلت هذا الأدب سماتٍ تنبؤيَّةً، فقد عبّر نتاجه السردي، خاصة القصة القصيرة منه، عما يمكن أن يمضي إليه حال العراق تحت حكم الدكتاتورية والتسلط الحزبي.