لا تشبه هذه الرواية عملا آخر، لا لشوقي كريم ولا سواه، واحسب ان هذا وحده سر نجاحها رغم التفاصيل الكثيرة وانشغالات التهجدات وتفاصيل التوق الى عوالم لايدرك كنهها البابليون ولا اهل لكش او سواهم.
إنها بحث عن الحرية ومن اجلها يعيش أبطالها في أرض بابل، إذ هي (حقائق) متخيلة وقعت بعد عام 556 قبل الميلاد وشهود الوقائع متوارون وقد جاسوا زمن التهجد والتيه بالاحلام المؤجلة.
شوقي كريم يقول في المقدمة التي سمّاها (توضيح القصد) أن ما دوِّن من باب الكشف عما هو مؤهل للاعلان فهو محض تخيلات لرجل حاصرته آثام الحب، فانتحر بجنون!
يقينا أن شوقي الذي كتب روايته هذه لم ينتحر بل دوَّن بكثافة غير متعجلة كل رقيم صنعه كجزء من البناء السردي للرواية في ارض بابل.
لم يعد مردوخ يعنيه شيئا وهو ينثر لغته عبر فصول الرواية المتصلة التي تقودك الى احلام الغوايات الجسدية وترتقي بك الى احلام الكلمات التي يضيع فيها المنطق الظاهري ليصنع منطقا روائيا اخر، مصفوفة كلماته الى لا لغة واضحة القصد لكنها لغة دقيقة المرامي ولنقرأ معا هذا المقطع:
(لا مجال أن تفكر، لامجال لان ترى غير وجودك الضائع بين كل هذه الوجودات المباحة لسياط السجانين وتبصر الذوات وهي تتخرب رويدا رويدا، نافضة ود انسانيتها بين أسنة المواجع وتراب الاستذكار) ص65، (لبابة السر) رواية تتكشف اسرارها تدريجيا، سر بعد آخر، عندما يصبر القارئ على كل نشيجها الدامي غير المتفائل الذي تدور مجمل حواراته ومنولوغاته الداخلية المستمرة وسط بابل- المدينة – الحضارة، المدينة التي تصارعت فيها الآلهة من اجل البشر، وبالضد منهم.
أحد أبرز شخوص (لبابة السر) الملك نبو نيد الذي يدور هنا في مطلق الحرف وانثيالات التكرار اللغوي فيغدو قزما وسط التفاصيل.. لا دلالة تاريخية فاعلة له، وهو الذي أقيل تاريخيا من ارض ملوكيته بابل، ليتسلم الحكم فيها الغرباء، والشخص الثاني الفاعل تماما هو الانسان البابلي الاصيل المدعو (شوقيا) وهو يتعملق في نقاش حر مع الآلهة مدافعا عن (بابل) التي كانت، وفي حواراته ككاتب للرقم الطينية بوصفه رقّاما يدوِّن تاريخ بابل.
وكان ممن حاورهم شوقيا السيد (تودعس) الذي يعيش تساؤلات التاريخ وانتظار الوقائع محاورا صاحبه غير عابئ بنتائج الحوار الذي لايفضي الا الى سواه من اسئلة وحوارات عاشها (شوقيا) الموجوع ببابل الاسطورة وبابل الآلهة المتصادمة والمتعايشة وسط انهار الدم التي اصنعتها بفعل الميثولوجيا التي صنعت من مردوخ رب الارباب هنا مثل العم (زيوس) عند اليونان.
يدخل الإله (سين) إله الحكمة البابلي مع شوقيا الرقام البابلي ومحاوره تودعس في حوار حلمي ممتع، تقطعه سياط فئة غامضة قامت بضرب الواجفين اثر قيام روح شمش بالطواف حول معابد بابل، حيث يغادر شمش المدينة زاهيا بالنور وهي تغرق في الظلام (ص81).
تستمر حوارات الشخوص وتطوف الالهة ببابل وتتهجد مع شوقيا الذي يتوق الى بناء بابل الخالدة دوما، إذ يقف الحكيم (سين ما غرض) في حوارية مطولة مع الملك المخلوع (نبو نيد) عن بابل الرؤية وبابل الحقيقة.
هنا ينقلنا الروائي الى حوارية أخرى بين الحسناء (مالو نيد) والملك نبو نيد تدور حول نظام الكون وبابل والاحلام والحب واشراقات العشق وذلك في نهاية الرقيم العاشر 6.
وتستمر الحوارات بين الحسناء مالو نيد والاله سن والملك نبو نيد وشوقيا الراقم البابلي وسواهم في لجة من فكر يتصارع باحثا عن الحقيقة التي يريدها البشر وسط استخفاف الالهة بتطلعاته.
إن منولوجات المؤلف الطويلة التي تكسر حدة النقاشات بين شوقيا ونبو نيد ووالدته وسائر الالهة، حيث مصائر بابل وسومر، واللغة الشعرية التي يطلقها لكسر صخب الحوارات اعطت رواية لبابة السر نكهة تتوارى فيها الاحداث حينا لصالح غواية شعرية اللغة.
إن لغة الرقيم الحادي عشر 17 (من ص444) تبدأ بترتيل أول جاء فيه:
ما سر الرغبة في إعلان السر.. الخطو منايا – الخطو خطايا – الخطو ضياع العمر بين الأغنية والقيثار – العمر نثار الفوضى – فكيف تتم الأسرار والطرقات تملأ حنجرة المارة بسؤال محفوف بعناد-
ويستمر هذا الدفق الشعري إذ تدخل لغة المسرح من منتصف ص447 عند جملة (لا جواب) الأولى، إذ تنثال الاسئلة بعد هذا، لتبدأ لغة (قالوا وقلت) الحوارية داخل المنظومة اللغوية وصولا الى (صورة الترتيل الثاني) التي تنبني على لغة مسرحية ضاجة بصور المصائر المقبلة والأمنيات البابلية التي يعلنها شوقيا.
يدخل المؤلف وسط جواب عن سؤال يقول:
- وماذا عن سيد بابلي مضى؟ ليعيد تشكيل الحكاية –في نهايتها- مستدعيا أحلام سومر وبابل بلغة شعرية موحية نهى الاسئلة بغياب نبو نيد وسائر الصحاب لتأتي (صورة الخاتمة) على لسان شوقيا: البابلي المنشأ، السومري الفكرة والتكوين، إبن نفروكيش ولكش وأوروك والوركاء وآشور، ويعني بذلك كل العراق، كل أرض السواد.
إن عمل شوقي كريم الروائي هذا يقدم صورة جديدة موجعة تدل على خبرة الروائي وحيوية أدائه المتصل الجامع بين الأداء الروائي الحركي الحواري والشطحات الروحية الشعرية وتوظيف الميثولوجيا لصياغة بنية روائية مبهرة وناجحة تعيد انتاج بابل الحضارة المأمولة. في النهاية لم يعد السر مغلقا بل حاضر بيننا
أبدا.