أمجد ياسين
أي روح تلك التي تسكن الأدب الامريكي الجنوبي/ اللاتيني، حتى تضفي عليه هذا الترف والألق. أجدني وأنا اقرأ رواية "فيزا امريكية" للكاتب البوليفي خوان دي ريكاكوخيا، ترجمة خالد الجبيلي، في خضم سرد مفعم بالحياة غني بالتفاصيل، لا يستكين لسياق الأحداث بمعنى أنه يحافظ على تجديد ايقاع السرد ونبضه باستمرار، وكأن الشخصيات تحاول كسر نمطيتها وقالبها الذي صيغت منه، بل هي في جريان مستمر نحو حضورها المستقبلي في الأحداث وفي الوقت نفسه تغير من شكلها الآني عبر اضافة لمسات أو فتح كوات في الشخصية تجعلها حاضرة على طول مسار السرد.
وهذا أمر غاية في الأهمية، ففي الكثير من الروايات تكون الشخصيات أشبه بمريض فقد شهيته للحياة والحركة واكتفى بالنظر اليهما عبر جدران غرفة صماء، وأهمل نافذة الغرفة التي تسرق من العالم يومياً ضوءه وعطره، فتبدو أحداثه وشخصياته باردة مستسلمة تشي بحاله.
تتمتع رواية "فيزا امريكية" بسرد سلس، مؤثث بتفاصيل تضفي عليه لمسة سحرية تغري القارئ بالكتابة عنه فما بالك بالقارئ السارد. ترى لماذا اهتم المؤلف بالتفاصيل كثيراً؟ ان جذور مجتمعات امريكا الجنوبية عميقة في التاريخ البشري، وتمثل الاسطورة لديهم والحكاية الشعبية جزءا رئيسا من شخصيتهم وهويتهم، ومن ثم مرجعيتهم الفكرية، فيأتي التفصيل طبيعيا وليس مفتعلا وخصوصا اذا كان الكاتب يجيد استخدامه.
في "فيزا امريكية" تشعر أنه أسلوب وتكنيك، ليس في توصيف الشخصيات فقط، بل الشارع والرصيف والمقهى والملابس واحوال الناس والوان المحال وشكل الكراسي.. ثم يأتي الاحساس اللحظي بالموقف للشخصيات الذي يمد جذوره في الحكاية لبناء الشخصية ويتفرع ليجعل من الأسطورة والتاريخ والواقع روافد تغني نصه الذي يمور في طبقات عدة منها الظاهر على السطح ومنها من يجب ان نتوقف عنده ونؤشر مرجعياته، وكأننا أما نسيج/ نص لحائك ماهر. على سبيل المثال "ودع يهودي يشبه وجهه وجه المسيح يرتدي كنزة برتقالية بياقة مستديرة جميع من في المقهى بنظرة سماوية. وكانت ترافقه امرأة من بلدي، تشبك يدها في يده، وقد امتلأ وجهها بنمش كثير، ولم يكن طولها يكاد يصل الى كتفه، وكانت تحمل بيدها الاخرى كتابا لبورخيس. لم يترك الشبان اليهود كسرة خبز او مسحة من الطعام في صحونهم. ثم فرغ المطعم".
لنرى كيف استثمر المؤلف تفاصيل حقائق تاريخية وطبيعية وطبية في بناء الشخصيات. اليهود يعني منطقة الشرق وفلسطين تحديداً، وهي مكان مولد ودعوة السيد المسيح (ع) ايضاً، فما كان من المؤلف الا ان استثمر تاريخ المكان، ورسالة السيد المسيح وما ارتبط بها من عذابات مخلص مرسل من السماء، فضلا عن صورة السيد المسيح في الانجيل والسينما، ليمنح اليهودي او هذا الآتي من الشرق وتمتد جذوره هناك، مسحة دينية مقدسة او صفة ملائكية عندما ودع بنظراته السماوية كل من في المقهى وكأنه بارك المكان وسيغادر إلى مكان آخر.. إن سحر المكان طغى على الشخصيات والعكس صحيح، فالقدس مكان مقدس عند الديانات السماوية، والشخصيات الرسالية التي ولدت او مرت منه اضفت هي الاخرى سحرها عليه، كل هذا ألبسه المؤلف شخصية آتية من هناك، كما لم ينس المؤلف أن يغمز بوضوح عن علاقة اليهودي بالمال وحبه له، وأن ما دفعه من نقود للطعام جعله يمسح صحنه "لم يترك الشبان اليهود كسرة خبز او مسحة من الطعام في صحونهم"، كما يمكن أن تشير هذه الجملة إلى أن هؤلاء الشبان اليهود جاؤوا من اوروبا، فلا ضير لديهم من اقامة علاقه مع غير اليهود وكذلك تطبعوا بالطابع الاوروبي وهو اكمال الطعام كاملا وعدم ترك بقايا في الصحن. ثم يصف فتاة من بلده "وكانت ترافقه امراة من بلدي، تشبك يدها في يده، وقد امتلأ وجهها بنمش كثير" هي صديقته اولا، ويدل النمش الذي يضفي الجمال على الوجه، علميا، الى سوء التغذية وتعرض مباشر لاشعة الشمس فترات طويلة، فيبدأ الجسم بافراز صبغة الميلانين لتخفيف ضرر اشعة الشمس فوق البنفسجية، وهنا يعطي المؤلف تصورا عن الحال المعيشي الصعب وطبيعة الاجواء المشمسة في امريكا الجنوبية وبأن لون بشرتها غير داكن، مرة اخرى يستطيع الكاتب المتميز ان يستثمر الكثير من المعلومات الطبية والطبيعية والتاريخية ويوظفها في نصه ليغنيه ويجعله اكثر مرونة وعمقاً.
ثم ينتقل "وكانت تحمل بيدها الاخرى كتابا لبورخيس" ومن يعرف الشاعر والمفكر بورخيس وما يمثله للامريكيين وللعالم بصورة عامة سيجد ان المؤلف اراد ان يقول: ان الفتاة التي تمسك بيد شرقي وبيدها الاخرى كتابا لبورخيس هي امتداد وتماهي مع بورخيس الذي اغنى شعره وكتاباته من ثقافات اخرى كالعربية والفارسية والهندية واليونانية القديمة واللاتينية والانكليزية، فضلا عن تشبع شعره بالاساطير والايحاءات من الكتب المقدسة. نحن امام صورة مرسومة بهدوء، ليست اعتباطية هذه التفاصيل، وحشو من دون فائدة او ديكور سردي فقط، بل مقصودة ومدروسة بعناية، وهنا تكون التفاصيل جزءا رئيسا من السرد واسلوب الكاتب، لانها موضوعة في محلها وتحمل معها دلالاتها التي تغني النص وتفتح طرقا ومسارات في سير الاحداث وتبني بتراكمها صورة بلدان وحضارات وشخصيات وطريقة عيش واسلوب حياة.. ورواية تقرأ بحق.