الأغنية السبعينيَّة التي لا تزال تشرخ الذاكرة وتستحضرها الروح

فلكلور 2021/02/10
...

 ريسان الخزعلي
يقول الشاعر (فرجيل) في كتابه (أناشيد الرعاة): {تستطيع الأغاني أنْ تهبط بالقمر من السموات}. ويقول (غوغول): {يا فرحي يا حياتي أيتها الأغاني لكم أحبك}. و(يسنين) هو الآخر يقول: {عليك أن تؤدي أغنيتك بنفسك حتى وإن كنتَ لا تُجيد اللحن}. هكذا إذنْ هو الغناء في جوهره الروحي والحسي، إنه الانتصار النهائي، حيث يُغني الإنسان ويستمع الإنسان. يغني شعراً حقيقيّاً بلحن جديدٍ وصوتٍ مسكونٍ بالدهشة.
اختفاء 
العشيقة برموشها
أغنية (ابنادم) السبعينيَّة زمناً وذائقةً، لا تزال تشرخ الذاكرة، وتستحضرها الروح ساعةَ أنْ تكون السماء قريبة من اصبع الطفل، وساعةَ أنْ تكون العشيقة متخفية برموشها، وساعة أنْ ينعزل الجسد في لحظة وجدٍ صوفيَّة. 
وهكذا تتموج القامة مع الإيقاع الشعري والموسيقي والصوتي في رقصةٍ واحدة.
أغنية {ابنادم} وهي قصيدة للشاعر الراحل ذياب كزار (ابو سرحان) وقد ضمّتها مجموعته الوحيدة (حلم وتراب) تتحدث مع الآخر بلغة النداء والشكوى، لغة واضحة مدببة، تُقيم مجاورتها بتماسّات مع الروح والعُمر والخسارة، قصيدة تشاغلت بلازمة التكرار (يبنادم)، ما وفّر لها طبيعة تموّجيَّة أدركها الملحن المبدع كوكب حمزة وأحالها لحنياً الى طقوس العزاء الحسيني أصواتاً ورنينَ طبول ٍ وايقاعَ (زنجيل). 
ومن ثم وجد الملائمَ الغنائي لها – الصوت الذي يرفُّ حزناً جنوبيّاً، صوت مطربها حسين نعمة. وهكذا كانت تعبيراً سمفونيّا عن الحزن العراقي العميق:
ابهيده اعله بختك لا تعت بيهه..
روحي انحلت والشوكَ ماذيهه.
 ما جنهه ذيج الروح يبنادم،
 إولا جنهه كلهه اجروح يبنادم،
 والشوكَ ماذيهه، اشمالك تعت بيهه.
 تسيوره عمري اوياك يبنادم، غفله واخذني الطيف،
 إولنهه ابحلاة النوم يبنادم، روحي إعله روحك ضيف،
 واغفه ابهواك اسنين يبنادم ، كيّف تراني ابكيف،
 ثاريهه غيمة صيف!
 بجي الشموع الروح يبنادم بس دمع مامش صوت،
إو رفّة جنح مكسور يبنادم، گلبي يرف بسكوت.
لاهي سنه إو سنتين يبنادم،
إولاهيّه صحوة موت.
حسبة عمر عطشان يبنادم، والماي حدره ايفوت.
طقس كربلائيّ
إنَّ (الدويّ) الروحي الذي يواجهه "ابنادم" في الشعر كنداءٍ، كان طقساً كربلائيّاً في اللحن وترتيلاً في الأداء. 
وبذلك توافرت العناصر الإبداعيَّة الفنية الصادقة في تحويل القصيدة الى أغنية جديدة في مسيرة اللحنيّة العراقية، وفي ذاكرة الأغنية العراقية وبالتالي في ذاكرة الغناء. 
وسنبقى نكرر الترديدة: ابنادم، في اشارة وتلميح الى كل آخر يحاول أنْ يسلبَ الإنسانَ صبواته وتطلعاته وحريته وعشقه.
 
مغاليق 
النفس البشريَّة
أغنية "ابنادم" حين نستعيدها هنا، لأنها النموذج الشعري/ اللحني/ الصوتي الذي يفتح مغاليق النفس البشريَّة ويمنحها القدرة لأنْ ترى التعارضات الحياتيَّة على بُعدِ مدىً أبعد من مدركات حاسة البصر- الرؤية كون الآخر المُخاطب – ابنادم لا يُمثّل رمزاً رومانسيّاً، وإنما الآخر بكل أبعادهِ، إنَّه الرمز الواقعي الدّال على المحنة بما في ذلك الانكسارات السياسيَّة والاجتماعيَّة والعاطفيَّة وفجيعة الخسارات، حتى غدت صحوة العمر (كتسيورة) يخطفها الطيف.
إنَّ "ابنادم" الشاعر (ابو سرحان) في القصيدة يواجهنا حياتيّاً باستمرار وقد يسلب منّا التماسك، لأنَّ التمثل الشعري حاد جداً: حسبة عُمر عطشان.. والماي حدره ايفوت، إلّا أنَّ القصيدة بعد أنْ تحوّلت الى أغنية منحتنا الالتفات الى الذات كعزاءٍ صوتي.