من قتل رونولفور؟

ثقافة 2021/02/10
...

 هدية حسين 
يعرف القارئ مسبقاً أن هناك ثلاث ركائز تقوم عليها الرواية البوليسية، جريمة قتل غامضة، محقق مع مساعديه من محققي الأدلة الجنائية، وقاتل يبدو العثور عليه مثل البحث عن إبرة في كومة قش، ويختلف كتاب هذا النوع من الروايات عن بعضهم بالأساليب والأدوات التي يمتلكها كل واحد منهم عن الآخر، ومن دون شك فإن أجاثا كريستي تتربع على عرش الرواية البوليسية، ولاتزال رواياتها من بين الأكثر تداولا في العالم على الرغم من مضي عشرات السنين على كتابتها، لكن هذا لا يمنع من ظهور أسماء بارزة لها مكانتها على خارطة الأدب في كتابة الرواية البوليسية..
ومن بينهم الكاتب الأيسلندي أرنولدور أندريداسون، المولود في عام 1961، والذي ترجمت رواياته الى 24 لغة وحصل على العديد من الجوائز، وهو واحد من أبرز كتاب الرواية البوليسية، اخترنا من بين أعماله رواية (غضب) التي ترجمها الى العربية حسان البستاني وصدرت في العام 2015 عن الدار العربية للعلوم ناشرون.
في رواية غضب نحّى المؤلف، المحقق إرلندور الذي كثيراً ما فك طلاسم الجريمة في رواياته، وأسند الدور الى المحققة إلينبورغ، التي أمسكت بملف عن جريمة غامضة حين تم العثور على الشاب رونولفور مذبوحاً في شقته، يُستجوب مالك العمارة، والجيران، وزملاء العمل في شركة الاتصالات التي كان يعمل فيها رونولفور، ولكن تلك الاستجوابات لا تسفر عن شيء يمكن أن يقود المحققة الى خيط من خيوط الجريمة، فكل المستجوَبون يشيدون بالضحية وأنه شاب لطيف ليس له علاقات مريبة وليس له سجل جنائي، وستتبع المحققة ما سيجده فريق الأدلة الجنائية داخل الشقة، وتبني عليه خطتها للكشف عن القاتل، وتضطر الى السفر الى أمكنة بعيدة، وكلما اقتربت من الإمساك بشيء ضاعت أشياء وتشعبت حكايات وكثر المشتبه بهم، وكل مشتبه به له حكاية ما مع القتيل، وما إن يخرج القارئ من حكاية حتى يدخل في حكاية أخرى.
إنها رواية مشوقة تجعل القارئ يشارك في البحث عن القاتل من أجل إعلاء شأن العدالة، لكن المؤلف هو الذي يمسك البوصلة، فما أن يقتنع القارئ بأنه عرف القاتل حتى يتغير اتجاه البوصلة لمشتبه به آخر، ثم آخر.. وهكذا، يبقى القارئ مشدوداً، ومأخوذاً بتفاصيل الرواية ومسالكها الوعرة بالوصول الى القاتل الحقيقي، ويستمر عنصر التشويق حتى يتم العثور على القاتل بفضل ذكاء المحققة إلينبورغ، والرواية لا تقف عند حدود الجريمة فقط وإنما تأخذنا الى الحياة الخاصة للمحققة، وهي تفاصيل يسهب الكاتب أحياناً في سردها لنقف على امرأة متفانية في عملها، متزوجة وأم لا تنسى أدق شؤون حياة عائلتها.
في الشقة التي وجدت فيها جثة رونولفور، ستكتشف إلينبورغ شال امرأة، وهذا يعني أن من ارتكب الجريمة امرأة، كما أن فريق الأدلة الجنائية يكتشف وجود شعر يعود لامرأة، فتحوم الشبهات حول امرأة مجهولة، وسنلتقي بنماذج من النساء كانت لهن صلة بالقتيل، فهو عادة وبحكم عمله يذهب الى المنازل ليقوم بتوصيل الكابلات أو أي شيء يتعلق بوصلات الإنترنت، ومن هذه لتلك تخرج حكايات جديدة مع رجال يبيعون الروهيبنول وهو نوع من المخدر يستخدم في علاج اضطرابات النوم وأيضاً في تسهيل مهمة الاغتصاب ويزول مفعوله بعد ساعات، وقد وُجِد هذا المخدر في جيب القتيل، وفي فمه أيضاً، ولم يُعثر على أداة الجريمة.
ستتكون لدى المحققة وهي تحاول جمع الخيوط، أن القضية تتعلق باغتصاب قام به القتيل بعد أن استدرج امرأة الى بيته، وحدث أمر ما جعلها تقتله، وهذا ما يعتقده القارئ أيضاً، لكن كرة الخيوط تتشابك بعد ذلك وتمضي الى طرف ثالث غير معلوم دخل بطريقة ما وفعل ما فعل، فمن هو الطرف الثالث؟ 
سيضيع القارئ أيضاً، ففي كل فصل ستتغير البوصلة، وسيلقى القبض على فتاة اغتصبت، ومن خلال مجرى التحقيقات اعترفت أنها ذهبت مع شخص الى بيته ولم تتذكر شيئاً بعد ذلك لأنها مخدرة، سيلقى القبض على أبيها، وسيمضي وقت طويل تتناقل فيه الأخبار قصة الرجل مع ابنته، ولما كانت البنت مشوشة ولا تتذكر أشياء كثيرة حدثت لها يعترف الأب بأنه هو الذي قتل رونولفور بدافع الثأر لابنته، والاعتراف سيد الأدلة كما يقال، غير أن المؤلف بعد أن أقنع القارئ بذلك سيغير الاتجاه مرة أخرى لأن الأب أراد إنقاذ ابنته من السجن، إنها لعبة يتقنها إرنالدور أندريداسون ببراعة وتشويق حتى الصفحة 348 حين يتم الكشف على القاتل الذي كان الوصول إليه يشبه إبرة في كومة قش استطاعت المحققة أن تخرجها بعد جهد وتفاصيل كثيرة تقطع الأنفاس.