لم يتوقّف المترجم والروائي العراقي عبد الهادي سعدون عن تقديم الأدب العربي إلى القارئ الإسباني، والأدب الإسباني إلى القارئ العربي، فأصدر عدد من الكتب المترجمة إلى الإسبانية، فضلاً عن ترجمته لرواية (لاثاريو) للعربية، وهي تعد الرواية الأولى في تاريخ إسبانيا قبل رواية دون كيخوته، وترجمته لأكثر من مختارات شعرية إسبانية، فضلاً عن مجموعات شعرية كاملة، كما أنجز ترجماته لتراث سرفانتيس صدرت مؤخراً.
مشروع سعدون هذه المرة مختلف تماماً عن أعماله السابقة، فقد أصدر كتابه الجديد (رفيقات آنخيدوانا: شاعرات عربيات كلاسيكيات)، وهو دراسة وترجمة لمنتخبات من شعر المرأة العربية القديم، عن دار بويتيكاس، في مالقة باسبانيا.
عن هذه المنتخبات، وأسباب اشتغاله عليها، كان لنا معه هذا الحوار:
* كيف انبثقت فكرة الكتاب؟
- فكرة كتابنا (رفيقات آنخيدوانا: شاعرات عربيات كلاسيكيات) قديمة جداً وتعود لنماذج دراسية أولى لتعليم الأدب العربي للدارس الإسباني، لكنها لم تتبلور وتأخذ هذه الصيغة بمثابة دراسة مطولة مع منتخبات شعرية إلا في عام 2019 بعد أن أعربت دار بوتيكاس الإسبانية ممثلة بمديرها الشاعر خوسي ساريا والتي تسلط الضوء على التجارب الكلاسيكية الشعرية العالمية، أن أشاركهم بمشروع شعري كلاسيكي عربي، فما كان مني إلّا العودة للفكرة القديمة وتطويرها ودراستها من جديد وتقديمها في هذا الكتاب الأنطولوجيا. والغرض الأول والأخيرة منه هو التأكيد على أهمية الصوت الشعري النسوي في محيط الشعرية العربية الواسع منذ نماذجه الشعرية الأولى المعروفة.
* ما المعايير التي تم من خلالها اختيار اسماء الشاعرات؟ ولماذا؟
- معضلة الأنطولوجيات الشعرية هو تحديدها بسقف محدّد من الأسماء والصفحات، وهذا كان شرط دار النشر الوحيد، وأيضاً أن تكون الطبعة مزدوجة اللغة بالعربية والإسبانية. وضمن هذه الشرط حاولت بشكل وآخر تحديد لتاريخية الشعر العربي منذ فترة ما قبل الإسلام وحتى نهاية الأندلس، أي من القرن الثالث ميلادي وحتى نهاية القرن الثاني عشر. حاولت حصر الأسماء المهمّة ضمن زمنها وفترتها ومن بعد عملية الانتقاء الصعبة من بين عشرات الأسماء التي أرشفت لها. بعد ذلك وقع اختياري على عشرين شاعرة يمثلن برأيي أهم الأصوات الشعرية النسوية بحكم تفوقها في أنموذجها الشعري، تنوعها ومتانة قصيدتها وظاهرتها الشعرية المتميزة. هناك أسماء من الطبيعي أن تكون في أية أنطولوجيا مثل الخنساء ورابعة العدوية أو ولادة بنت المستكفي وبحكم المجموع النقدي، ولكن هناك من أضيفت للكتاب لقوة قصيدتها ومتانتها على الرغم من قلة نتاجها او ما وصل لنا من شعرها.
* ما النماذج التي اخترتها؟ وما المهاد النظري الذي قدمته من خلاله هذه النماذج؟
- في الأنطولوجيا أكثر من خمسين قصيدة منتخبة لعشرين شاعرة من أوائل أسماء التي وصلتنا حتى آخر شاعرة معروفة في العصر الأندلسي والنماذج الشعرية ممن اشتهرت به هذه الأسماء الشعرية: عفيرة بنت عباد، أخت الأسود بن غفار، أروى بنت الحباب، أم الضحاك المحاربية، أم خالد النميرية، عشرقة المحاربية، ليلى بنت لكيز، جليلة بنت مرة، الخنساء، ميسون بنت بحدل الكلبية، ليلى الأخيلية، رابعة العدوية، ليلى بنت ظريف، علية بنت المهدي، عريب المأمونية، ولادة بنت المستكفي، أم الكرام، قسمونة بنت إسماعيل، حمدة بنت زياد، حفصة الركونية.
هؤلاء النسوة الشواعر يشكلن بمجموعهن من آلاف الأصوات عبر تاريخ الأدب العربي ما يمكن ان نطلق عليه الشعرية الند والملاصق للأنموذج الذكوري، وهن بهذا يقمن بدور الرفيقات أو الوريثات الشرعيات لأول صوت شعري في المنطقة ونعني به قصائد الكاهنة والأميرة الشاعرة العراقية أنخديوانا قبل أكثر من 4500 سنة. أميرات وقيان وزاهدات ومغنيات وبنات حكام وشخصيات ذات نفوذ، كلهن يجتمعن ليقدمن نماذج شعرية فريدة. لو ألقينا نظرة سنجد الشعرية النسوية مختلفة في التناول عن شعرية رجال زمنها، ولكنها لا تختلف في الدخول بالتعبير بكل أنواعه ومواضيعه، بل نراها في اغلب الحالات أكثر جرأة وتناولاً للممنوعات أو التابوات. إذ لم يقتصر دورها على شعرية الندب والرثاء كما شاع حتى فترة قريبة، بل تجاوزته لتنشد في كل أنواعه من هجاء ومديح وغزل وتعفف وتشبب الخ. الدراسة المقدمة للكتاب حاولت فيها حصراً تبيان أهمية الشعرية العربية في البناء العام للأدب والثقافة العربية ومدى تأثيره على بنية المجتمع ومن ثم هي نظرة مقاربة عن أثر الشعرية النسوية ضمن سياق فترتها وظرفها التاريخي.
* ما الذي دعاك لتقديم شاعرات عربيات قديمات للقارئ الاسباني؟ وما الذي سيخرج به من هذا الكتاب؟
- هناك أكثر من ضرورة لتقديم أكثر من كتاب على هذا النمط ولأسباب واضحة، لقلة ترجمات الشعر العربي الكلاسيكي بصورة عامة وندرتها باللغة الإسبانية، ناهيك عن ترجمات الشعر النسوي. وما أتأمله بهذه الترجمة تقديم نماذج مهمة في الشعرية العربية تضاهي أهم شاعرات فترتهن في العالم القديم والمعاصر. النظرة القاصرة عن آدابنا النسوية مصدره عدم وجود مصادر دراسية أو ترجمات او كتب تنبه لذلك. القارئ الإسباني وعلى وجه الخصوص الباحث منه يفتقر لكتب ومراجع تبين له محيط الأدب العربي ومن ثم تنوعه وغزارة نتاجه من أدباء رجال ونساء، وعليه من المهم أن يكون الفهم مصحوباً بدراسة نقدية وتوضيح جمالي وانتخاب حقيقي يمثل النخبة من الشاعرات المجيدات شعراً وحضوراً. إذا كان التاريخ العربي قد دون لنا عشرات الكتب والمنتخبات من شعر شاعرات العربية، الحق أن أثرهن وتراجمهن بلغات أوربية تعد قليلة قياساً لأهميتهن ودورهن الكبير. ما أتأمله من الكتاب أن يكون تنويراً لمسألة حيوية وقيمة وهو دور المرأة في حقل الشعرية العربية وتعددية الأصوات وتنوعها، ومن ثم فتح الطريق لدراسته والتوسع به من قبل آخرين.