ما بعد الطاعون: شكسبير يتخيّل عالماً مطهَّراً من السمّ والافتراء والعين الشريرة

ثقافة 2021/02/12
...

 بول يشنين
 ترجمة: جمال جمعة
عاش شكسبير حياته في زمن الطاعون. ولِد في أبريل 1564، قبل أشهر قليلة من تفشّي الطاعون الدّبلي الذي اجتاح إنجلترا وقتل ربع السكان في مسقط رأسه.
كان الموت بالطاعون مؤلمًا لمن كابده ومروّعًّا لمن شهده. الجهل بكيفية انتشار المرض يمكن أن يجعل الطاعون يبدو كعقاب من إله غاضب أو كتحطيم العالم بأكمله. دمر الطاعون إنجلترا، وخصوصاً العاصمة، مرارًا وتكرارًا خلال حياة شكسبير المهنية ــ في عام 1592، ومرة ​​أخرى في عام 1603، وفي عامي 1606/ 1609. كلما تجاوزت أعداد الوفيات بسبب المرض ثلاثين وفاة في الأسبوع تقوم السلطات في لندن بإغلاق المسارح. خلال العقد الأول من القرن الجديد، كانت دور المسارح مغلقة بالقدر الذي كانت فيه مفتوحة.
المرض الوبائي كان سمة من سمات حياة شكسبير. غالبًا ما نمَت المسرحيات التي أبدعها من خلال وعيه بمدى هشاشة الحياة في مواجهة العدوى والانهيار الاجتماعي.
 
رسول جولييت في الحجر الصحّي
باستثناء (روميو وجولييت)، لم يكن الطاعون من ضمن أحداث مسرحيات شكسبير، لكنه موجود في كل مكان في اللغة وفي الطرق التي تتأمل فيها المسرحيات الحياة. تشعر أوليفيا في (الليلة الثانية عشرة) بتزايد الحب كما لو كان بداية مرض. «حتى بنفس السرعة التي ربما يصاب فيها المرء بالطاعون»، كما تقول. في (روميو وجولييت)، لاتصل الرسالة المتعلقة بخطة جولييت في التظاهر بأنها ماتت إلى روميو، لأن الرسول أُجبر على الخضوع للحجر الصحي قبل أن يتمكن من إكمال مهمته.
إنه تحوّلٌ قاتل في مجرى الأحداث: روميو يقتل نفسه على الضريح الذي ترقد فيه حبيبته ميتة على ما يبدو. عندما تستيقظ جولييت وتجد روميو ميتًا، تقتل نفسها هي أيضًا.
أحلك التراجيديات، (الملك لير)، تصوّر عالَماً مريضاً في نهاية أيامه. «أنتِ دمّلة»، يقول لير لابنته جونريل، «قرحة طاعون، ورمٌ ناتئ في دمي الملوّث».
تلك الشخصيات القليلة التي أبقيت على قيد الحياة في النهاية، وتقف مثكولة وسط عالم مهشم، لا تبدو مشاعرها مختلفة عن مشاعر الكثيرين منا الآن في مواجهة جائحة الفيروس التاجي.
من الجيد أن نعرف أننا (أعني جميعنا على مدى الزمن) قد نجد أنفسنا أحيانًا في «مستنقع عميقٍ، حيث لا مقرّ»، في «المياه العميقة، والسيل يغمرني»، على حد تعبير ناظم المزامير التوراتي.
 
نظرات سامّة
لكن شكسبير يمكنه أن يوضح لنا أيضًا طريقاً أفضل. إثر طاعون 1609، قدّم شكسبير لجمهوره دراما تراجيكوميدية غريبة وجميلة تدعى (سيمبلين). «مشروع سيمبلين أنثروبوسين العالمي» بقيادة راندال مارتن في جامعة نيو برونزويك، ومن ضمنهم فرق مسرحية أخرى من أستراليا إلى كازاخستان، قدّموا المسرحية كطريقة للنظر في كيفية استعادة العالم وجعله صالحاً للعيش اليوم. تأخذ (سيمبلين) عشاق مسرح شكسبير إلى عالم خالٍ من الطواعين، لكنه مع ذلك عالم مليء بمخاطر العدوى. ملكة المسرحية الشريرة تجري تجارب بالسموم على القطط والكلاب. حتى أنها شرعت في تسميم ابنة زوجها، الأميرة إيموجين. تأخذ العدوى أيضًا شكل التشهير، الذي ينتقل مثل الفيروس من فم إلى فم. الهدف الرئيس مرة أخرى هو إيموجين، التي تم تلفيق أكاذيب خبيثة ضد عفتها من قبل رجل يدعى جياكومو، وتصل تلك الأكاذيب إلى مسامع زوجها المنفي، بوستومس. من إيطاليا، يبعث بوستومس أوامر إلى خادمه في بريطانيا لاغتيال زوجته.
عالم المسرحية ملوّث أيضًا بسحر العين الحسودة، إذ يمكن لرؤية شيء بغيض أن يُسقم الناس. الطبيب الطيّب كورنيليوس ينصح الملكة بأن التجارب التي تجريها مع السموم «ستورثك قساوة في القلب». «ثم أن رؤية هذه الآثار سوف يؤدي إلى الاشمئزاز والعدوى».
حتى أن نظرة الناس المبغضين لك يمكن أن تكون سامّة. عندما كانت إيموجين تودّع زوجها، فإنها تدرك تهديدات نظرات الآخرين الشريرة، قائلة:
«عليك أن ترحل،
وسأبقى أنا هنا أتحمّل كلّ ساعةٍ 
شُواظَ عيونٍ غاضبة».
 
حجّاجٌ وأطباء طيّبون
يقودنا شكسبير من هذه الأرض الخراب المتزلفة نحو تجديد عالَم معافى. إنه حجّ شاق. إيموجين تهرب من البلاط وتجد طريقها إلى جبال ويلز القديمة. الملك آرثر، المؤسس الأسطوري لبريطانيا، كان يُعتقد أنه من ويلز، لذا تعود إيموجين إلى الطبيعة، وأيضًا إلى حيث بدأت سلالة أسرتها والأمة ذاتها.
في الواقع، نشأ أشقاؤها، الذين اختطفوا من البلاط في طفولتهم المبكرة، في براري ويلز. ينجمع شملها بهم، رغم أنها لا تعرف ولا هم يعرفون بعد أنهم أمراء بريطانيا المفقودون.
تبدو المسرحية كأنها تتجمع باتجاه حلّ عند هذا المنعطف، لكن لا تزال هناك رحلة طويلة. إيموجين يجب أن تنجو أولاً، إذا جاز التعبير، من موتها وموت زوجها.
إنها تتجرع ما تعتقد أنه دواء، ولا تعرف أنه سمّ من الملكة. يجد إخوتها جسدها الهامد فيضعونه بجانب جثة الشرير كلوتين المقطوعة الرأس.
بفضل الطبيب الطيّب، الذي استبدل سمّ الملكة بشراب منوِّم، لا تموت إيموجين. تستيقظ من نوم شبيه بالموت لتجد نفسها بجانب ما تعتقد أنها جثة زوجها.
 
معانقة الحياة العارية
ومع ذلك، رغم عدم وجود شيء تعيش من أجله، تظل إيموجين تواصل الحياة. إن معانقتها للحياة العارية هو أساس الحكمة، والخطوة التي يجب عليها اتخاذها والتي ستفضي إلى سعادتها وسعادة الآخرين. تأتي في النهاية إلى اجتماع لجميع الشخصيات. يعترف جياكومو كيف أنه كذب بشأنها. موكب قول الحقيقة يطهّر العالم من الافتراء. بوستومس، الذي يعتقد أن إيموجين قد قُتِلت بناءً على أوامره، يعترف ويترجّى الموت. وهي، متنكرة، تجري لمعانقته، لكنه في ذروة يأسه يسقطها أرضاً. يبدو الأمر كما لو أنها ينبغي أن تموت مرة أخرى. عندما تستعيد وعيها، ومن الواضح أنها ستبقى على قيد الحياة ويجتمع شملهما، تقول إيموجين:
«لمَ ألقيتَ عنكَ بمن تزوجتَها؟
تصوّر أنك الآن فوق جبل،
ثم ألقِ بي من جديد».
بوستومس يجيب:
«تعلّقي هنا كالفاكهة، يا روحي،
إلى أن تموت الشجرة».
 
برء العالم
إيموجين وبوستومس تعلّما أننا نلتقي فقط في الحب، عندما تضرب جذور كينونتنا عميقاً في العالم الطبيعي، وفقط عندما نكتسب إدراكاً تاماً بأننا، مع مرور الوقت، سنموت.
بهذه المعرفة وفي عالم مبروء من السمّ والافتراء والعين الشريرة، فإنّ الشخصيات حرّة في النظر إلى بعضها البعض عيناً بعين. الملك ذاته يلفت الانتباه إلى كيف تنظر إيموجين إليهم وكيف ينظر إليها، قائلاً:
«انظروا،
بوستومس معلّق على إيموجين،
وهي، كالبرق الأمين، تلقي نظرتها
عليه، على شقيقيها، عليّ، ومولاها يصيب
بالفرح كل شيء»*.
ما زلنا الآن بحاجة إلى أطباء طيّبين لحمايتنا من الأذى. لكننا كذلك يمكن أن نتبع خطى إيموجين من خلال إدراك كيف يمكن لتجربة الفقدان الكلّي أن تطهّر مخاوفنا، وأن نتعلم معها كيف نبدأ رحلة العودة باتجاه عالم مُعافى.
The Conversation 
* حوارات مسرحية (سيمبلين) اقتبسناها من ترجمة د.عبد الواحد لؤلؤة للمسرحية الصادرة عن سلسلة المسرح العالمي، الكويت 1992.