ابتهال بليبل
«الفستان المصنوع خصيصا والفريد من نوعه، أهميته ليست فقط هوليووديّة، وإنما له أهميّة سياسية وتاريخية»، هكذا يقول (دارين جوليان) مدير دار جوليان للمزادات، معبراً عن قيمة الفستان الذي ارتدته مارلين مونرو (1926 - 1962) خلال أدائها لأغنية “عيد ميلاد سعيد” للرئيس جون كينيدي
(1917 - 1963).
وفستان له هذه الدلالات المتشابكة والمتوالدة المفترضة يحتاج إلى وقفة جادة وتأمل عميق وربما تفهّم لنصل إلى السبب الرئيس في تفرّده لينتج هذه (الأهمية) و(القيمة)، إذ تقف اثارته الظاهرة، حاجزا بين جسد المرأة الذي وجد نفسه في غير موضعه وبين ما يفترضه الواقع من تمثلات وتمظهرات سياسية وتاريخية، وهي هنا خلاصة تشكلت منها تجربة مونرو الفريدة
والقاسية.
يسري ذلك الافتراض عن (الأهمية) و(القيمة) عند الحديث عن فستان آخر ارتدته هند رستم (1931 - 2011) في أوّل بطولة لها في فيلم «الجسد» عام 1955، فموجة التحسس الجمالي التي رافقت الاعلان الاشهاري عنه - استناداً لإيحاءاته- كبيرة جدا فصار كأنه الوجه الآخر لعشق الجسد المثالي المنتج بصريا في السينما والاعلام المرئي والمقروء.
الفستان كان بلونين: أبيض وأسود، (أو هكذا فرضته تقنيات ذلك الزمن) عاري الكتفين، ولكي نرافقه في رحلته الإغرائية رغم بساطته المفرطة، علينا أن نترك الطرق المعتادة القديمة عند النظر لأجساد تشبه الفساتين، أو فساتين تشبه الأجساد تشي بحياة مسجونة مقموعة داخل خزانة خرساء بدأت بشكل أو بآخر تهدد وجودنا التاريخي ولتمحو ذاكرتنا، فنتخلى عن رغبتنا العدائية في تمزيقها أو التخلص منها بدلا من استنطاقها، لأن هذه الفساتين إشارات، تثبت أجسادنا من خلالها وجهة نظر من صممها وانتجها عن السلطة والحب
ّ والشهوة.
إلى حد كبير يمكن القول إنّ الفساتين المثبتة على (المانيكانات) التي لا ملامح لها ووصولا إلى تلك العالقة في خزائن الأبناء والورثة ستستمر دائما بتقديم ذاتها كأنموذج عن السلطة والحبّ والشهوة، وأن الاحتفاظ بها كآخر شيء يكاد يغيب، يمكنه أن يقضي على ذكريات النساء الملتصقة دائما بالقماش والمرايا والذاكرة.
هنا يشكل فستان هند رستم -إذا اخذنا بنظر الاعتبار- الخصوصية الفنية، كياناً سلطويا مزدوجا، فهو يُظهر ما نألفه ونتوقعه من تصورات نسقطها على جسد المرأة، من خلال اللون والموضة والقماش ويعطل ما تخلقه تلك التصورات البصريّة من خيالات مقابل الهيمنة، هيمنة الجسد بالفستان ذاته، والذي يعمل، من جهة أخرى، على إخفاء سلطته بفصل الخصوصية الفنية عن محتواها، ويعيد تشكيلها من ملكية عامة إلى ملكية خاصة، على وفق منطق القناعة
والاستسلام.
وكما في فستان مارلين مونرو التي استعان النقاد بشبهها الظاهر بهند رستم، بسبب لون الشعر واسلوبها في ارتداء الفساتين والاكسسوار وحركات الاغواء والاثارة فأطلقوا عليها لقب “مارلين مونرو الشرق”، نجد في كل ما يحيط هذا الفستان يومها تمّ التخطيط له بعناية من حيث الأداء وكلمات الأغنية وحركاتها وسلوكها، فضلا عن الصور التي التقطت لها، والأضواء الساطعة على خشبة المسرح. وبحسب الشائعات فإن (مونرو) كانت لديها آمال كبيرة في هذا الحدث. في ذلك الوقت، الذي لم تعد الرومانسية بينها والرئيس سراً على أحد، ولهذا السبب كان لهذا الأداء المبهرج مثل هذا
التأثير.
نجح فستان مونرو بمنع جسدها من الظهور ثانية إذ كان (الأخير لها فبعد أقل من ثلاثة أشهر ماتت وزعم أنها انتحرت، ليتم اغتيال الرئيس كينيدي بعد 18 شهراً)، حينما تساوت المواجهات وأصبح من السهل مقارنة الشي بغيره عندما يتواجدا بأمكنة تحكمها أنظمة معينة، فالفستان الذي سيُظهر الرومانسية، يتحول إلى غرض سياسي، يتنقل جسد المرأة معه كما تنقل أوراق المشاريع الستراتيجية، بشيء من الاستعراض.
فضلا عن ذلك، يفرض هذا النوع من الفساتين الخالدة زوايا نظر تحددها مشاعر الحب التي تعزّز دورها الجديد كمحاولات الاغراء والاستدراج، بعد أن كانت معنية غالباً بظهور اجتماعي مترف، بل إن من هذه الفساتين من وجد أساسا لتحقيق سلطة، كالفستان الذي سافرت هند رستم لاقتنائه من باريس من أجل ارتدائه في أول بطولة لها، لتحقق سلطة لجسدها المرئية.. لتحفيز الخيال الرومانسي.. هذا الفستان الذي يصدر إشارات في السلطة والحب هي إشارات حقيقية أكثر من الكلام الذي تخبرنا به أفواه النساء عن الحب، بل ومن حركاتهن نفسها.