حين نلجأ الى الكتابة، نطمح أن نرى العالم بإشراق وانفتاح كبيرين حتى وأن توجهنا بعيوننا من خلل نافذة صغيرة، ليتسع الأفق.. ونحاول بتحديقنا البحث ما بعد الأفق، قد نتجاوزه بمخيالنا.. ونحن نبذر الحرف الأول في حقل المعرفة.
تبدأ الوهلة الأولى بإثارة المتلقي في الكتاب من عنوانه اللافت، والذي يعد عتبة النص بحسب قول رولان بارت والذي يرسل شفراته الى المتن، بعد أن يشد المتلقي بحكم الإغراء، على الرغم من حالة الحيرة وصعوبة الانتقاء وصولا الى اللحظة الحاسمة باختباره، وهو –العنوان- قد شهد اختيار عناوين عدة ملغزة، شاعرية، اشكالية، تراثية، بسيطة، أو ربما من عناوين سابقة تلاعب فيها بالإضافة أو تقديم وتأخير.. كونه موجه اللحظة نحو العمل الابداعي.
وهناك من يعدها –العنونة- المفتاح الاساس للدخول الى محتوى الكتاب، وهو استنطاق لمجسات سحره وفق منطقة الجذب الأولى حين تقع العين على العنوان، ندرك جيدا دراسة العديد من الباحثين والنقدة والخوض في هذا المجال، ولكل رأيه الذي يعتقده صائبا في موضوعة العنونة.
فعلا، حين ننهي كتابة نصنا، ونشرع في اختيار العنوان الرئيس له، كم نتأنى بعد أن يأخذ وقتا إضافيا لإيجاد صلة قوية بين ما سنختاره ليكون المدخل المباشر للملتقي، قد يكون مجازيا أو تكتنفه الغرائبية لنصل الى المثير والمحفز للإجابة عن أسئلة كثيرة سيثيرها القارئ وقت انتهاء العمل ليجد الصلة بين العنوان والمتن، ويمثل العنوان ثريا النص برأي القاص الراحل محمود عبد الوهاب، الذي يطلق عليه (بنية افتقار).
مرة، قدمت كتابي (رماد الأسئلة) الى المطبعة وكان بعنوان آخر، اكتشفت هناك في مجموعة الطبع المقدمة نفسها عام 2007 مشاركة لمفردة البنفسج مع شاعر آخر، أثرت أن أغير العنوان ونشتغل على تصميم غلاف جديد في وقت قياسي، ليطبع بالعنوان الحالي.. يصدف ذلك، لكن فضاءات العنونة مفتوحة للكاتب وهو يدرك فاعلية عناوينه الفرعية ليجعل منها العنوان الرئيس لكتابه وهذا ما حصل معي، وتداركت تغيير العنوان بالوقت المناسب.
وفي أحاديث عدة مع مبدعين يكتبون الأنماط الكتابية المتعددة يعتقدون قوة العنونة بالمتن، وهي تمثل المغنطة الأولى لجذب القارئ، على الرغم من أنها ليست هناك قاعدة ثابتة أو طريقة استثنائية نشتغل عليها في اختياراتنا لعتبات الكتب بل هناك من يشتغل وليس في رأسه أي عنوان لنصه أو حتى أبسط تفكير به، إذ ربما يطفو على السطح وهو يواصل الكتابة، يقدح في ذهنه العنوان.. لأنه سيمثل المفاتيح المناسبة للولوج الى النص والوصول الى بينة المتن الابداعي سيميولوجيا.
نعرف أن هناك من يحدد العنوان بكلمة أو كلمتين أو ربما بجملة واحدة قبل الكتابة، وهناك من يبذل جهدا كبيرا حتى يقتنع بالعنوان وتصل به الحالة الى الاستشارة والاستعانة بالمقربين للتوصل إلى اختيار عنوان واحد من عنوانات متعددة..
يلجأ البعض إلى الابتعاد عن المباشرة والأنماط السائدة، بغية الوصول إلى عنوان مغرٍ يجذب المتلقي ويوقعه في غرام أولي مع الكتاب، وسمعت أيضا هناك في وسطنا من يشغله العنوان أكثر من المتن الابداعي ليجعله وسيلة شد وجذب كونه يمثل خطابا بمخيال تصور الكتاب من خلال عتبته الأولى.
لا أخفيكم سراً أن هذا النص (المقال) ظل بلا عنوان حتى اكتمل فاحترت به، واخترت أخيراً (العنوان.. مرايا النص).