الأدب صناعة جماليَّة

ثقافة 2021/02/14
...

 ياسين طه حافظ
 
هذا العنوان، الأدب صناعة جمالية، كان موضوعة نقاش مع متأدبٍ، قارئ أدب لا ينتجه. بدأ الإشارة بقوله: «أنا أقرأ من أجل جمال العبارة أو جمال المعنى..» وهو قول لا استطيع غير أن احترمه، وغير أن اعترف بأنه جمع ما نرجوه من الكتابة الإبداعية. وبعد مغادرة ذلك القارئ الذكي، موضع الاحترام، واصلت التفكير، بأن الأدب يمدنا بجمالية كل أنواع الخبرة. لكن هذا يشترط أن تكون القراءة ذكية وبثقافة فنية.
معنى هذا ألا تكون غريبة عن سلامة فهم الادب وصناعته، وهذا قانون كل خبرة لكي نستوعبها ونراها رؤية أخرى خاصة. الرؤية العامة أو المشتركة، غالباً ما تصنفها التوصيات والأحكام المسبقة. ومتعلم الأدب يخضع عادة لسطوة النظريات من غير قدرة تفرز ما ينفع، ما يكشف له السليم منها. أما جميعها فتكون عادة مربكة ومتناقضة، وحينها يكون الفرز مهمة الناقد المتخصص لا مهمة قارئ الأدب.
في تقدم ذلك، القارئ يجرؤ على التمرد على تلك الأحكام ويفلت من الأحابيل التي تكون، في حالات كثيرة، صناعة حرفية تتراكض بنتاجاتها دور النشر.. وهنا، وفي حال نضج هذا القارئ، ليكون مهتماً، أو يكتمل أكثر ليكون أديباً منتجاً. فهل يبقى نظرياً أم يتحول إلى كاسر نظريات وعامل شقِّ طرق، طرق هروب أو تحرر؟ هل هذا الأديب الذي أطلعه الخصب الثقافي الأدبي يحتمل خضوعاً لغير المقنع، أم يعمل لابتداع ممرات حرة لمرور أكبر حجماً؟ 
الخطورة، التي تواجه الأديب الجديد المقبل هي أما من نظريات لن تظل مقنعة، وأما من تخبطه في المناطق الضحلة والتكرار، تكرار الموضوعات ضمن أفق واحد. الأصالة تموت في التكرار، تكرار أي موضوع: المرأة، الوطن، كآبات العزلة أو الحرمان، ستكون بعد الدوران في فلكها الواحد، متلفة لجمال الصناعة فقد اصبح الموضوع معروفاً بعد تكراره، تُحْتَمَل قراءته وكتابته مرة، مرتين، ثلاثاً، بعدها يكون مملاً وفي طريق الموت. السؤال هنا ليس الموضوع ولكن تكرار مضمونه. لو اكتسب الموضوع أبعاداً أخرى، لو اتسع الأفق إلى ما يهم الإنسان فرداً أو الإنسانية عامة، لو تضمن روحاً جديدة من عصرها، لكان في ذلك لا منْجاةٌ حسب ولكن كشوف جديدة.
السؤال الآن: هذا الكلام يسهل قوله أو قول أمثاله. لكن هل نستطيع انجازه في التطبيق؟ وهل يعجز الكتاب، الشعراء التحرك بتلك المشيئة، ام أنهم لا يفقهون المغزى؟ بعبارة أخرى، هل نستطيع الخلاص من التكرار؟.
هنا يحضر الاجتهاد والدأب والتفكير بأن ليس كل ما نكتبه يظل جميلاً وإذا ظل جميلاً فليس كل ما نكتبه يظل مهماً. لذلك نحن نرحب بالبدايات، بالكتاب، الشعراء، الجدد، ونمجد الكتاب، الشعراء، المجددين والذين يتطور الفن والفهم الإنسانيان في كتاباتهم. كان التمجيد عظيماً والاهتمام واسعاً بـ «الشيخ والبحر» وقد خلف همنغواي أعمالاً مهمة وراءه. ترك «والشمس تشرق أيضاً» وترك «لمن تقرع الأجراس»، التمجيد للشيخ والبحر كان الأعظم والرواية كانت الأصغر حجماً! تصاعدُ النمو، تصاعدُ النضج او تقدّمُ المعنى واتساعُه، هو ما يرجوه قراء الأدب، منتجوه ونقاد الأدب ودارسوه، وهذا أيضاً هو الجوهر الذي تهتم به الاكاديمية.
نعم، قد يتعرض الأدباء إلى ضوضاء التجارة وتبجحات مدعي الفهم ورعاع الكتابة، والانحيازات الشخصية ومظاهر النفعية – السياسية، والانتمائيات الصغيرة وتبنيات الولاء السياسي أو مجاملات العيش اليومي، وهذه تخلق جواً من فوضى المعرفة الأدبية. وفوضى من اختلاف التقديرات، وقد تضع المؤثرات الاجتماعية والصحفية، ومعها المؤسسات وتوجهاتها، قد تضع هذا، لا ذاك في موقع الأهم وتجتهد بصناعة أسباب. لكن ليس هذا طريق تاريخ الأدب، ويبقى للقيم الأساسية حماتُها. أليست هي أمثلة واضحة، هذه الاهتمامات اليوم بمن كانوا غفلاً في أزمنة أخرى؟ رأينا هذا ونراه في الفن، في الفكر وفي الشعر وفي الأفهام النقدية.
فضلاً عن المؤثرات الطارئة مما أسلفنا، في كل حال، علينا ألا نغفل مساحة الحيرة أو التساؤل المصيرية والمربكة: ففي هذه المساحة يُكتَب الادب الذي نريد!.
بعد كل ما تقدم، هل نعمل بالانموذج فنكتب بما كتب فيه سوانا من موضوعات، ولا نبتدع أفقاً خاصاً، أم ننتقل إلى جديد، ونواجه الاتهام بعدم الأصالة؟ هذه مسألة صعبة أخرى.
لكن، لسنا مخيرين، نحن محكومون بإغناء، بتغيير، بتجديد أفق الموضوع الموروث والذي استهلكه التكرار. في السينما، مثلاً، ما عاد مشهدُ قبلةٍ أو كشف الراقصة لفخذها مثلما كان قبل نصف قرن ثمة ما هو اكثر وأهم من هذا. اهتمامات جديدة نفسية، فكرية وجودية، ترتفع بالموضوع وبالعمل الفني. كما أن البكائيات والتفجعات القديمة ما عادت تجدي بلاغتها الا كونها دروسا لتعليم الانشاء. وحتى موضوعات العبث القريبة بعد منا، أنقذها «بيكيت» بما قدمه، كانت اعماله تطويراً واغناء لموضوعات مشابهة قدمها سلفه.
هذه مسألة، المسألة الثانية أن للجديد، إن كان مكتملاً، دارسين جدداً وثمة نظريات جديدة في النقد والدرس الأدبي. وهذه ستكون مصادر عمل لجيل مقبل أو أكثر. ثم لم يحصل في تاريخ الأدب ان احترمت القواعد والأصول أبداً. ليستا دائماً ركيزتي الأصالة. نحترم التكامل ولا نريد الإعاقة عن المواصلة ما دمنا نرى وننشئ جديداً، لكن الشرط الأخير لا يمكن تجاوزه. فما عادت العواطف والنوايا وحدهما تحكمان المنطق وتوجهان الحياة. الحكم اليوم للعلم وللثقافة الجديدة وإلا فهو التهالك أو السقوط، ولن يكون سقوطاً
 جميلاً.