جريدة {الحدباء}

ثقافة 2021/02/15
...

  محمد صابر عبيد
تحتل الصحافة دوراً شديد الأهميّة في حياة المدن التي تصدر فيها بوصفها حالة حضارية متميّزة لا يمكن أن تستغني عنها المدينة مطلقاً، فالمدينة التي تفتقر لهذه الميزة الثقافيّة المميزة تظل ناقصة وتعاني من ضعف في مفصل أساس من مفاصلها المدينيّة، إذ تمثل الجريدة الروح الثقافيّة المتحرّكة لحياة المدينة وهي تنقل ما يجري فيها وفي البلد عموماً من أحداث وقضايا وتجليات على مختلف المستويات، فهي لسان حال المدينة المدون والمصور يحكي لهم مفردات حياتهم وخصوصياتها ومفارقاتها وسيرتها، على النحو الذي يجعلهم في قلب الصورة الحضارية المتحركة للمدينة وكأنها بين أيديهم وتحت أنظارهم وداخل دائرة أفعالهم وممارساتهم وأنشطتهم، ومن دون ذلك تصير المدينة متباعدة الأطراف لا سبيل إلى جمعها في شاشة ورقيّة واحدة.
يطيب لي في هذا السياق بين الحين والآخر استذكار جريدة "الحدباء" الموصليّة بوصفها "منارة" أصيلة من منارات هذه المدينة التاريخيّة العريقة، فقد قُيّض لي مطلع ثمانينيات القرن الماضي أن أجد سبيلاً رائعاً نحو الصفحات الثقافيّة التي كانت نافذة شاسعة وجميلة لجلّ أدباء الموصل، ومع أنّ الجريدة محليّة تصدر أسبوعياً على نحو منتظم غير أنّها بحقّ كانت طليعيّة قدر تعلّق الأمر بأدباء المدينة من الأجيال كلّها، فقد كانت النافذة الأكثر حريّة لنا ونحن نتطلّع إلى غدٍ أدبيّ وثقافيّ أفضل كنّا بحاجة ماسّة لأن نراه ونتلمّسه ونحلم به، وربّما كانت الصفحات الثقافيّة هي الأهم والأكثر حراكاً في الجريدة بوصفها فضاءً أدبياً مشتركاً تستند إلى طاقات إبداعيّة خلاقة، وكنتُ أحد الأدباء الذين خرجوا من معطف الحدباء بأمانة لا يمكنني تجاوزها أو عدم الاعتراف بها أبداً.
نشرتْ الصفحاتُ الثقافيةُ في الجريدة على مدى سنوات تكويني الأدبيّ الأوّل مجموعةً كبيرةً من قصائدي القصيرة ومقالاتي النقديّة المتنوّعة، وذلك بدعمٍ من أستاذي الراحل د.عمر الطالب أحد أهم محرّري الجريدة ومؤسّسيها، وكان ينقل لي إعجاب د.بشرى البستاني زميلته في هيأة التحرير بما أكتب؛ على نحو حرّضني وشجّعني على مواصلة النشر بكثافة، وفعلاً ظللتُ مواظباً على النشر فيها ولم أنقطع حتّى توقّفتْ، فكانت بحقّ مدرسة تخرّجتُ فيها صحبة زملاء كثر صاروا من الأسماء الأدبية المهمة عراقياً وعربياً، وكانت بوابة واسعة دلفنا منها نحو فضاء الأدب العراقيّ والثقافة العراقيّة والعربيّة بجدارة واستحقاق وكفاءة على مدى العقود الثلاثة قبل احتلال العراق.
تمثّل هذه الجريدة تراثاً ضخماً من تراثات مدينة الموصل على مستويات ثقافيّة ومعرفيّة وأدبيّة وفكريّة كثيرة، وأدعو الأقسام المعنيّة في كليّات جامعة الموصل –على نحوٍ خاصّ- التفكير الجديّ بالاحتفاء العلميّ والثقافيّ بهذه الجريدة الغرّاء، وإذا ما خصصتُ بهذا النداء أقسام اللغة العربية ومركز دراسات الموصل على سبيل المثال لا الحصر فبوسعها عقد مؤتمر علميّ بعنوان: "الأدب العربيّ أجناسه وأنواعه وتجلّياته الثقافيّة في جريدة الحدباء"، أو أيّ عنوان آخر يندرج في هذا السياق ويتيح فرصة لمراجعة حقبة خصبة لأدب المدينة وأدبائها على مدى أربعة عقود تقريباً، وبوسعها اقتراح رسائل وأطاريح تتناول الحركة الشعريّة والحركة السرديّة والحركة النقديّة في جريدة الحدباء، إذ نشرتْ في هذه الأعوام آلاف النصوص المتنوّعة الأشكال والأنماط بما يجعل من دراستها كشفاً للفضاء الثقافيّ والأدبيّ في مرحلة مهمة من تاريخ العراق الأدبيّ والثقافيّ، فهي الجريدة الأكثر استيعاباً وتمثيلاً لهذا الفضاء الذي قد ينتهي البحث في تجلّياته إلى نتائج شديدة الأهميّة حتّى على مستوى تاريخ الأدب والنظرية الأدبية.
لا يمكن بالتأكيد إحصاء عدد الأدباء الذين أسهموا في الجريدة من محافظة نينوى ومن محافظات العراق الأخرى، وحتّى من خارج العراق في أحيان لا بأس بها، فعلى مدى هذه العقود كانت الصفحات الثقافيّة لجريدة الحدباء تزخر بالأدباء والنصوص على اختلاف المستويات والطبقات والأجيال، وثمّة على هذا الصعيد عشرات الموضوعات الساخنة التي تصلح لرسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه يمكن أن تجيب عن كثير من الأسئلة، فالحراك الثقافيّ والأدبيّ الذي أحدثته الجريدة على مدى عقود كثيرة تصلح لقراءته نقدياً وتفقّد قدرته على الإنجاز الحداثيّ في مجالات عديدة مهمة.
أقترح أن يتقدّم أحد أقسام اللغة العربية لتبنّي هذا المشروع ودراسته من مختلف جوانبه بحيث تتحوّل الدراسات العليا إلى نوع من المشاريع الأدبية المشتركة، على نحوِ ما يجري في الجامعات المتقدّمة في العالم حين تنطلق نحو مشاريع كبرى في الدراسات العليا تقوم على وقائع أدبيّة مُعيّنة تحكي تاريخ الأزمنة والأمكنة والأنشطة 
والفعاليّات، ولا تكتفي بالمشاريع المفردة المستقلّة التي لا يجمعها رابط ولا تفضي إلى نتائج عالية المستوى يمكنها أن تصنع الظواهر الكبرى في الأدب والثقافة والحياة، بل تخضع لمشاريع مشتركة تعمل معاً في ظلّ رؤية نقديّة شاملة تأخذ بنظر الاعتبار مجموعة من المنطلقات والاعتبارات، تؤول جميعاً إلى نتائج تسهم وتساعد في إدراك حقيقة الوضع الثقافيّ والأدبيّ في مرحلة مهمّة من مراحل الحياة العراقيّة.
بمعنى أن يقوم أكثر من طالب دراسات عليا في الوقت نفسه بدراسة جوانب متعدّدة من الحقول الأدبيّة للجريدة، ويكون هناك أعلى قدر من التفاعل بين الطلبة لاستيفاء الشروط الموضوعيّة اللازمة لأجل الوصول إلى نتائج ذات قيمة.