د. ثائر العذاري
كثرت الدراسات والأبحاث التي تناولت الخطاب السردي، وبخاصة تلك الموضة التي تجتاح الجامعات العربية حاليا بتسجيل رسائل وأطاريح عنوانها (الخطاب السردي في شعر فلان)، وعند قراءتها لا نجد ما له علاقة بالخطاب السردي ولا السرد أحيانا.
إن الخطاب السردي عملية معقدة ومركبة أكثر مما يبدو للوهلة الأولى، ذلك لأن أكثر عناصره- كما سنرى- مختلف في تعريفاتها وحدودها، ما يسبب إشكالات كبيرة لعل أولها يتولد من كلمة خطاب، فالخطاب هو مقول من قائل يوجهه إلى مخاطب ويجري في سياق معلوم. فما قصدنا بعبارة (الخطاب السردي)؟ هل هو:
- خطاب المؤلف للقارئ
- خطاب الراوي للشخصيات الأخرى
- خطاب الشخصيات مع بعضها
- خطاب الشخصية الرئيسة الداخلي
يولد مصطلح الخطاب وحده كل هذه الاحتمالات وأكثر، أما إذا نظرنا إلى وصفه بالسردي فستتعقد القضية أضعافا، ولعل (باتريك هوغان Patrick Hogan) في كتابه (الخطاب السردي Narrative Discourse) يوضح تلك الإشكالات حين يصور الخطاب السردي بهذه الصيغة الرياضية (صفحة ٢٢):
الخطاب السردي = المؤلف الحقيقي [المؤلف الضمني [الراوي [المبئر [الحكاية [الخطاب الضمني [الحكاية الضمنية]]]] المروي له] القارئ الضمني] القارئ الحقيقي.
يخلق المؤلف وهو يكتب رواية أو قصة صورة لنفسه، أو قناعا كما يسميها بعض الدارسين، عبر تراكيب اللغة واختيار الألفاظ والتقاط الشخصيات وأوصافها وميولها وسلوكها، والأمكنة ومواقف الراوي منها، والتركيز على بعض الأحداث أو الأمكنة أو الأشياء والمرور بغيرها سريعا، هذا كله وغيره يوفر للقارئ معطيات وانطباعات تجعله قادرا على تصور شخصية للمؤلف، يطلق عليها النقد اصطلاح (المؤلف الضمني)، والمؤلف الضمني، بعيدا عن الفذلكات النظرية، هو صورة المؤلف كما يتخيلها القارئ بتأثير النص السردي، وهو بالطبع مختلف عن المؤلف الحقيقي الذي هو من لحم ودم، أو هو الصورة البديلة التي خلقها المؤلف الحقيقي لنفسه في ذهن القارئ الحقيقي.
يخلق المؤلف الضمني راويا متخيلا، يتحمل مسؤولية سرد الأحداث وتقديم الشخصيات، ولهذا الراوي بالضرورة مواقف وآراء وأهواء تختلف عن مواقف المؤلف الضمني أو توافقها، وقد يرى الراوي العالم بعيني شخصية أخرى نسميها (المبئر)، فهو ينقل ما رآه المبئر، وتأتي هنا قضية مقدار الثقة بالراوي والمبئر، فبينما يكون الراوي العليم الغائب عن عالم الحكاية ثقة فيما يروي، يكون الراوي المتكلم الذي يمثل بعضا من الكون السردي غير موثوق فيه لأنه حتما سيخفي ما يدينه أو ما يكشف حقيقته.
يرسم الراوي صورة ذلك العالم بنص لغوي ينطوي على حكاية (سلسلة أحداث) تتضمن خطابا ضمنيا وحوارات بين الشخصيات، وحكاية ضمنية يعبر عنها حوار الشخصيات ذاك، وكلام الراوي هو خطاب موجه إلى مروي له، وكل هذا سيقرؤه القارئ الضمني، وهو القارئ الذي تخيله المؤلف الحقيقي وهو يكتب نصه، فالمؤلف وهو يكتب يضع في ذهنه قارئا ذا كفاءة قرائية محددة ومعارف مسبقة معينة، وحين ينشر العمل سيقرؤه قارئ حقيقي ليس بالضرورة شبيها بالقارئ الضمني أو قريبا منه.
يلاحظ في صيغة (هوغان) هذه أنه وضع المؤلف الحقيقي والقارئ الحقيقي خارج الأقواس، وذلك لأنهما العنصران الوحيدان اللذان خلقا من لحم ودم كما يقول. وعدم وجود علاقة تواصل حقيقية بينهما، ولا سياق خاص يجمعهما فضلا عن أنهما خارج النص السردي، ما يعني عدم وجود عملية خطابية مباشرة بينهما. فالكون السردي حسب (هوغان) هو ذلك الذي بين المعقوفين الخارجيين حسب.. أما في داخل النص فثمة مستويات للخطاب لابد من تحديدها وفهمها، هي:
- الخطاب بين المؤلف الضمني والقارئ الضمني الذي يحكمه سياق الرسالة العامة للحكاية التي أراد المؤلف نشرها، مثل رسالة غياب العدالة الاجتماعية التي تنطوي عليها روايات مثل الجريمة والعقاب أو البؤساء أو اللص والكلاب.
- الخطاب بين الراوي والمروي له الذي تحكمه دوافع الروي. وغالبا ما يصعب تحديد الشخصية التي يوجه لها الراوي خطابه، لكن المروي له يكون واضحا جدا في الروايات المبنية على تقنية الرسائل، وفي الحكايات القديمة كان واضحا أن المروي له في ألف ليلة وليلة هو شهريار، وفي كليلة ودمنة هو الملك بيدبا.
- الخطاب الضمني بين الشخصيات محكوما بالسياق المتولد من الزمان والمكان وسلسلة الأحداث والحالات النفسية والاجتماعية لها. فخطاب السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ لا يفهم إلا في السياق الداخلي في عالم الرواية وتحولاته عبر الزمن.
ما نريد الوصول إليه وحاولنا بيانه في هذا المقال القصير هو أن الخطاب السردي عملية معقدة يحتاج الخوض فيها إلى تفكيك مستويات الخطاب وفهم سياقاتها وعدم تبسيط العملية وفهمها على أنها خطاب يوجهه المؤلف إلى القارئ.