إدواردو غاليانو: كل غياب يقابله لقاء لم يأتِ حتى اللحظة
ثقافة
2021/02/17
+A
-A
ترجمة وتحرير: مهند الكوفيّ
إدواردو غاليانو، يحتقر الحدود في كل من الحياة والأدب. بعد أن قضى سنوات نفيه في الأرجنتين إثر الانقلاب العسكري في بلده الاورغواي عام 1973، عاد إلى مونتفيديو في
1985.
كتب غاليانو الفوارق بين التاريخ، الشعر، المذكرات، التحليلات السياسيّة والأنثروبولوجيا الثقافيّة، ببراعة وخيال. لا يلجأ إلا لاستخدام الكلمات التي تستحق فعلا أن تكون، وذلك لمواكبة المنظورات الإنسانيّة الأخلاقيّة المعالجة للقضايا الشخصيّة والسياسيّة في أن تضفي كتاباته التقدير والتوقير على تجارب الحياة اليوميّة وخبراتها كنقيضٍ مقابلٍ للإعلام الجماهيري الذي "يتلاعب بالوعي العام، ويحجب الواقع، ويكبت بعمق مخيف.. وذلك بغية فَرْض طرائق معيّنة للعيش وتنميط الواقع. بصوته المضاف للأصوات التي نادراً ما وصلَت إلى أسماعنا، يدحض غاليانو الأكاذيب الرسميّة التي تمر بتزوير للتاريخ. تمثل أعماله فصاحةً أدبيّة وتجَسِّد عدالةً اجتماعيّة لا تغدو رأيا انشغاليا ثيميا.
جَمَعَ في كتابه "أصوات الزمن" و"حياة في قصص" ثلاثمئة وثلاثة وثلاثين نصَّاً نثرياً بروحٍ شعريّة عالية ذات تشكيلات ثيمية فسيفسائيّة مكوَّنة من: الفكاهة، واليأس، والجمال، والأمل. هذه المحاورة لعدةِ لقاءات تلفزيونية أضعها بين أيديكم، كاتب لاتيني آخر، هو الذي من كتب ثلاثية "ذاكرة النار" و"المعانقات" و"مرايا" كتابه الأحدث.
* ما علاقة أميركا اللاتينية بالعالم، من حيث الأدب؟
- من الصعب الإجابة عن هذا، بدمج كل أميركا اللاتينية بالعالم. شيء جيد، انك لم تسألني عن علاقتها بكواكب أخرى! مثل: المريخ والقمر! اعتقد أننا مثل أميركا اللاتينية، نعيش اليوم لحظات مهمة خلاقة ومثمرة. من الصعب في أحايين كثيرة فهم هذا؛ خاصة وأنت تنظر لها من الخارج ومن فوق، ليست من أية مشكلة من فهم الأشياء بأرواحنا!، أعني تلك الأشياء التي من الممكن النظر لها بعمق وبعد عميقين. لو نظرت لها من الأعلى ومن الخارج، كما عليه النظر لأساتذة الديمقراطية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. كأنك لم تفهم أي شي تماما! لن تفهم شيئا لسبب بسيط؛ هو أن إقليمنا، هو الإقليم الأوحد في العالم، الأكثر تنوعا، ارض التنوع البشري، الذي يعني بالنسبة لي، فضيلة الرؤية التي تنظر لها بعمق و تراها كنوعٍ من الخطيئة.
* لِمَ تراها نوعا من الخطيئة؟
- لأنك إذا ما تدخل في القالب، الذي يراه من هم في علٍّ، لكونه الأنموذج الوحيد للديمقراطية، سنرى انه في إقليمنا لا وجود للديمقراطية!، والحقيقة أن التجربة تنصع. نعم، هناك ديمقراطية، هو أننا نعيش في مملكة تناقضات وتنوع مختلفين. وأحيانا تتصارع كل الألوان والروائح والآلام معا في هذا العالم الموهون.
* ماذا يعني لك العالم؟
- أتذكر جملة لشاعرة أميركية أراها رائعة تقول فيها:
"آه... هل العالم متشكل من ذرات؟ لا، العالم لا يتشكل هكذا! العالم متشكل من حكايات".
اعتقد نعم، العالم متكون من الحكايات، لان الحكايات هي من يقصها ويصغي لها، من يبتكرها ويزيد منها، الحكايات قادرة على تحويل الماضي إلى حاضر، وأيضا ما تسمح به من تحويل البعيد إلى شيء قريب، البُعد: هو أن تكون أكثر قربا.
* هل يختلف الألم وفقدان الأشياء من كاتب لآخر؟
- تعني الموت، اعترف لك، أن غياب الأشياء او فقدانها لا تعنيني، لكن، فقد البشر يؤرقني كثيرا. أراني أحيانا في حال من الصعب ملؤه. ولكن ماذا نفعل، فالعالم بهذا الشكل وبشكل ما، عبارة عن نسيج من الفقدان والاكتساب. وأيام حياتي هي التي لم أعشها بعد!، كل غياب يقابله لقاء لم يأت حتى اللحظة. ونحن محظوظون لأن الحياة كريمة لا تقصر بذلك.
* لماذا تكتب؟
- في الواقع أنا أمارس الكتابة؛ للاحتفاء بها. يعني التمديد بكل ما يمنعنا من الاعتراف، سواء فينا أم علينا، نكتب بتنوع العالم مثل أيّ قوس قزح يصادفنا فجأة، ويذهب مسرعا. نحن أكثر بكثير، مما يقولونه لنا.
* لكل كاتب ومفكر، وجهة نظر في الإنسان وصنعه. ما هي وجهة نظر غاليانو؟
- واحدة من أجمل الحكايات الهندية وأميركا اللاتينية، تقول: إن آلهة المايا حاولت اختراع الإنسان، لأنها كانت ضجرة وترغب بخلق كائنات تتحدث إليها! وقد خلقونا من معادن وفشلوا في مهماتهم. ووصلوا لمعرفة الخلق، عن طريق حبوب الذرى. آلهة المايا، صنعونا من حبوب الذرى، لهذا نحن متنوعون مثل أية ذرى. ليست الذرى الكيماوية او الجينية من تلك التي يبيعونها اليوم، اقصد الذرى الحقيقية. بعد تلك الحبوب، حاولت الآلهة خلقنا من الخشب، فكانت محاولة تامة، ولكن واجهت مشكلة التنفس! الذين بلا نفس؛ لا كلام لهم. كما يقال: لا يخرج من أفواههم أي شي، إنهم يفتقرون للزفير، من اجل أن يكون لك شهيق، لا بد أن يكون زفير. من اجل أن تقف، لابد أن تقع. من اجل أن تفوز، لابد أن تخسر. ويجب أن نعلم هذه الحياة. فقط أولاد العاهرة هم الذين يعيشون بسعادة. فهم يميلوا إلى تمزيق البشرية، ويعيشون لسنوات طويلة ولا يموتون.
* ما هو المستقبل؟
- كل ما نستطع أن نجزم به، أننا ما زلنا هناك، سنكون من أهل القرن الماضي، بل أسوأ من ذلك. سنكون من أهل الألفية الثانية. ورغم كوننا لا نستطع تخيل العالم في المستقبل، في الشوارع مثلا: ستكون الكلاب هي من تدهس السيارات! الهواء خالٍ من السموم. عدا تلك المخاوف الإنسانية، لن يقود الناس السيارات، أو يبرمجوا الكومبيوترات، أو يباعوا في الأسواق، أو يشاهدوا التلفزيونات، التلفاز لن يكون أهم أفراد الأسرة، سيعامل كأية مكواة أو غسالة. الناس سيعملون ليحيوا، بدلا من يحيوا ليعملوا. لن تكون هناك بلاد تأخذ الشباب الذين يرفضون الذهاب للحرب، بل سيذهب إليه فقط من يريد صنع الحرب. الاقتصاديون لن يقيسوا مستويات المعيشة بمستويات الاستهلاك، أو قيمة الحياة بكمية الأشياء. الطباخون لن يؤمنوا بأن الكركند يُفضل أن يغلى حيا. المؤرخون لن يؤمنوا بأن البلدان تحب أن يتم غزوها. السياسيون لن يؤمنوا بأن الفقراء يحبون ابتلاع الوعود. العالم لن يحارب أجور القراء، بل الفقر. وعالم صناعة الأسلحة لن يجد بديلا من أن يشهر إفلاسه. لن يموت احد من الجوع، لأنه لا احد يموت من السمنة. أطفال الشوارع لا يعاملون كالقمامة؛ لأنه لن يكون هناك أطفال شوارع. الكنيسة ستصحح الأخطاء المطبعية في ألواح عيسى.
* ما هو الخوف؟
- الخوف، هو بمثابة التهديد. إذا ضاجعت، ستصاب بالايدز. إذا دخنت، ستصاب بالسرطان. إذا تنفست، ستصاب بفيروس. إذا شربت الكحول، ستقوم بحادث سيارة. إذا أكلت ستصاب بالكوليسترول. إذا تكلمت، ستخسر وظيفتك. إذا مشيت، ستكون ضحية عمل إجرامي. إذا فكرت، سيرهقك القلق. إذا شككت، سيقودك الأمر للجنون. إذا شعرت، ستشعر بالوحدة.
* هل تعتقد أن التاريخ حدث صار في الماضي؟
- من الغرابة، أن أفضل قصص التاريخ بلا نهايات مفرحة. بالطبع، إن التاريخ كونه تاريخا لن ينتهي أبداً. إنه يبدأ متجدداً كل يوم، وحين نعتقد بأنه يقول لنا وداعاً، فإنه في الحقيقة إنما يقول "نلتقي قريبا".
* بأية طريقة، ساعدتك الماركسية أو أعاقتكَ، ككاتب؟
- كانت طفولتي كاثوليكية، وشَبابي ماركسياً. ربما أكون واحداً من الأفراد الذين انصبوا على رأس المال والإنجيل معاً. ينبغي عَرضي في متحف للأنثروبولوجيا. بالطبع، كِلا التأثيرَين ما زالا يعيشان داخلي، لكنهما لا يمتلكانني.
*كنتَ رجلا صحافيا لمدة طويلة من حياتك. كما يُقال، الصُحُف كمؤسسات ذات أعراف وتقاليد.
* هل تؤمن بزوال الصحيفة؟
- لقد تركت الصحافة تأثيراً عميقاً عليَّ. أنا طفلُ الصحافة، مع أني الآن أخصص معظم وقتي لكتابة الكتب أكثر من المقالات. وعليَّ أن أعترف بأني جئت من حقبة المطبعة والطباعة. إنه من المستحيل عليّ، تقريباً، قراءة مقالة أو كتاب عبر الشاشة. أفضل قراءة الورق الذي ألمسه ويلمسني.