حسن السلمان
إن الفانتازيا وفي أبسط تعريف لها حسب الموسوعة الحرة، هي: (تناول الواقع الحياتي من رؤية غير مألوفة، ما يعني أن هنالك شكاً في عالم الرواية ـ أو القصة ـ إن كان ينتمي إلى الواقع أم يرفضه، وفي الوقت نفسه هو معالجة إبداعية خارجة عن المألوف للواقع المعيش، إذ تعد الفانتازيا نوعاً أدبياً يعتمد على السحر وغيره من الأشياء الخارقة للطبيعة كعنصر أساسي للحبكة الروائية والقصصية،
والفكرة الرئيسة، وأحياناً للإطار الروائي والقصصي) وبطبيعة الحال، هنالك اكثر من صورة للفانتازيا ومسمياتها، فهنالك الواقعية السحرية، والفانتازيا الملحمية، والفانتازيا الواقعية، وفانتازيا الرعب، وفنتازيا الخيال العلمي، ولكل فانتازيا وظيفتها ومجالاتها الخاصة على مستوى الشكل والمضمون.
من هذا المنطلق لايمكن عد الفانتازيا مجرد هلوسات وتهويمات وتداعيات لاشعورية وخلق عوالم بلا ملامح وهدف محدد، بقدر ماهي معالجة إبداعية لواقعٍ شديد التعقيد والغرابة يتعذر معالجته بآليات وطرق وأساليب تقليدية مألوفة عند تعلق الأمر بالفانتازيا الواقعية موضوع مقالنا.
إنها، أي الفانتازيا بطبعتها الواقعية، رؤية فنية لخلق عالمٍ موازٍ لامألوف للعالم الواقعي، إذ يتبلور عن هذه الموازاة عالم من الممكن وصفه بالعالم الهجين من حيث وقوعه مابين الواقعي والمتخيل الغرائبي، ضمن سياقات واجواء ومناخات وقوانين خاصة بالغرائبي/ الفانتازي، وبذلك تكتسب الرواية أو القصة درجة نجاحها على مستوى الإقناع والتفاعل القرائي والجودة الفنية.
ومن تلك السياقات تهيئة المتلقي لاستقبال الفانتازي عبر إشارات وتمهيدات فانتازية، أو تقديمها أي الفانتازيا على شكل دفعات أو بشكلٍ متنامٍ وليس على شكل انعطافة حادة وبشكل مفاجئ كي يستعد ويتكيف المتلقي مع مايقدم له من عوالم واحداث غرائبية غير مألوفة.
في المجموعة القصصية الموسومة بـ (حديقة الأرامل) للقاص ضياء جبيلي، هناك أكثر من قصة ذات طابع فانتازي/ واقعي، مستوفية لشروط وقوانين كتابة القصة الفانتازية من حيث توافر السياقات والأجواء اللامألوفة غير المنقطعة الجذور بالواقع كما في القصص الآتية: في قصة (محنة الجندي حميد) يقدم لنا السارد حكاية جندي جريح يجد نفسه ملقى في ميدان المعركة بين عشرات الجثث العائدة لطرفي النزاع، إذ لايستطيع مغادرة الميدان والنجاة بنفسه خشية اكتشافه من قبل العدو وقتله، فيبقى مابين الجثث على أمل أن تهدأ الامور ويأتي من يقوم
بإخلائه.
بيد أننا نكتشف في الأخير، وبعد انتهاء الحرب بين العراق وايران وتطبيع العلاقات بينهما عبر تبادل الأسرى ورفات الجنود القتلى، نشوب نزاع بين الطرفين حول عائدية هيكل عظمي اعترض طريق اللجنة الدولية لترسيم الحدود!!.
في هذه الحركة الفانتازية الساخرة، يكشف لنا القاص عن مدى عبثية الحروب واستهتار مرتكبيها بالإنسان الذي لايعدو أن يكون مجرد آلة أو وقوداً لنيرانها التي لاتخلف سوى رماد الفجائع والويلات، وتنقض على أحلامه بعيشِ حياةٍ تليق به كإنسان وهي في مهدها، وتترك في اعماق الناجين منها شروخاً نفسية عميقة مدمرة تلازمه حتى آخر رمق من حياته.
في قصة (الذكرى السنوية) يقدم لنا السارد حكاية رجل تستحوذ عليه سلطة المكان.
ففي صباح السادس عشر من نيسان من كل عام يذهب (محمود) بطل القصة إلى شارع الاستقلال ويتمدد في منتصفه، ملصقاً أذنيه على اسفلت الشارع، وبصعوبة بالغة، مرة تزيحه شرطة المرور برافعة! ومرة يلقى القبض عليه ويودع في مصحة عقلية، ومرة يلقي به عمال النظافة في حاوية القمامة إلى أن يتقدم به العمر ويفقد بصره، لنكتشف أن سر تمدد (محمود) في منتصف الشارع وفي بقعة محددة منه، طيلة كل سني حياته يعود إلى امرأة لم يحدد السارد صلتها به، كانت تعبر الشارع برفقته، فيلتوي كاحلها وتنجرح ركبتها ويسيل دمها لتغادر الحياة بعد ذلك، ليعود يعبر الشارع وحيداً ويتمدد في منتصفه كل عام مأخوذاً بتلك الذكرى المكانية التي لا تسمح له أن يواصل حياته بشكل
طبيعي.
في قصة (العش) تقع (هالة) قارئة الكتب فريسة ما بين الحقيقة والخيال من خلال تعلقها برجل تحوم حوله العصافير وهي الوحيدة المحرومة من الحب وإعجاب الآخرين، إذ يدفعها حرمانها إلى تصديق وجود رجل اسمه رجل العصافير يجلس أمامها في حديقة عامة، ويبدي إعجابه بتسريحة شعرها المصنوع على شكل عش، ولكن وعيها يقول لها إن لا وجود لمثل هكذا رجل، وانما الأمر كله يعود لما التصق في ذهنها من شخصيات ورقية تعرفت عليها في القصص التي تقرأها، لكن اللعبة تستهويها فتغير من تسريحة شعرها التي تعجب رجل العصافير بتسريحة (ذيل الحصان) وتذهب لموافاة رجلها لترى ردة فعله بعد التغيير حيث لا تجد أثراً له على مدار عدة أيام، لتعود إلى البيت ويرافقها عصفور يحط على كتفها ويغرد تغريداً، كالنحيب إذ تسأل من باعته له عن سبب نحيبه ويأتيها الجواب بأن ثمة من خرب عشه!!، لنصل إلى معادلة دلالية تقول بأن طرفي القصة، هالة ورجل العصافير، ينقصها شيء صعب التعويض على أرض الواقع، فلا يجدان سوى الخيال لسد النقص.
مما تقدم، ووفقا للنماذج المختارة من مجموعة حديقة الأرامل، نلحظ بأن استخدام القاص للفانتازيا الواقعية كرؤية وأسلوب، اضفيا على القصص قيمة من خلال إيصال المعلومة وتضمينها دلالات بعيداً عن الاكتفاء بالغرائبي/ الفانتازي فقط.