استطلاع: يوسف محسن
يبدو أن التساؤل عن العوامل التي ادت إلى ضعف المثقفين العراقيين في أداء مهامهم الاساسية ملتبس وخاضع إلى عوامل مركبة ومتعددة، لاسيما 2003. فهل تعود الاسباب الى تشوهات المعرفة ام الى اضطراب العقل الجمعي، أو بسبب هيمنة النزعة المركزية للدولة العراقية، أم لطغيان النزعة الايديولوجية؟ ولماذا لم يستطع المثقفون العراقيون أن يحضروا في الفاعلية السياسية، وظلوا عند هامش التاريخ؟.
يبين الدكتور ابراهيم العلاف - استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل: أن هناك حقيقة لابد أن تذكر للجميع، وهي ان المثقف العراقي لم يفشل في ان يكون له دور في الانتاج المعرفي أو المساهمة في تعميق الوعي أو في انتاج السياسة الثقافية المطلوبة، وانما الفشل يكمن في وقوع البلد تحت الاحتلال، واختلال موازين الفكر، وتراجع العلم، وانتكاس المعرفة، وفقدان السلطة الثقافية المعرفية، وضياع كل ما من شأنه ان يبرز دور المثقف على الساحتين الثقافية والفكرية والاعلامية. ولو تتبعنا المشهد الثقافي العراقي المعاصر منذ سنة 2003 لوجدنا كمّاً كبيرا من الانتاج المعرفي والفكري والفني أبدعه المثقفون العراقيون. انا شخصيا اصدرت كتبا عديدة منها كتاب عن (تاريخ العراق الثقافي المعاصر)، لكن مما ينبغي ان نؤشره-ايضا- غياب الاهتمام الرسمي عن الساحة الثقافية او لنقل غياب المرجعية الثقافية الراعية للإنتاج المعرفي، وعدم قدرة وزارة الثقافة على ضمّ المثقفين من خلال مؤسساتها تحت جناحها، وانا دائما اقول ان ما شهده ويشهده العراق منذ سنة 2003 حتى الان هو (غياب الستراتيجيات) ليس في ميدان السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام والسياسة الخارجية وانما في الثقافة.
كلنا – كمثقفين- لا نشعر بوجود الدولة، والسبب ان الحكومات التي تشكلت منذ 2003 غير معنية بوجود ستراتيجيات لا للسياسة، ولا للثقافة ولا للاقتصاد. لهذا نجد انتاجا معرفيا ثرا، ولكن بدون (إطار) مؤسسي يضمه ويبرزه.
وإذا ما قررنا هذه الحقيقة، نقول ان هذا هو السبب في ابتعاد المثقف، الذي قام بواجبه، لكن لم يجد من يحتضن نتاجه المعرفي، ويؤطره ضمن ستراتيجية وطنية. وهنا اقترح على المسؤولين الاهتمام بوزارة الثقافة ماديا ومعنويا، واعادة ربطها بالإعلام، والسعي باتجاه تحديد (فلسفة او خطة او ستراتيجية وطنية معرفية جديدة) تبين الى اين تتوجه الدولة في فلسفتها وخططها؟، وما هي الاهداف الكبرى التي تريد تحقيقها في عالم السياسة، وعالم الاقتصاد، وعالم الثقافة؟.
انحسار الدور الريادي
في حين يقول الدكتور جمال العتابي: تبدو قضية الثقافة بصفتها القيم والمفاهيم في آن واحد، ملحّة وداعية لمزيد من التأمل، لكن هذه النبرة الشقيّة، في احاديثنا عن الثقافة والمثقفين، ينبغي أولا أن لا تأخذنا بعيداً عن حيثيات الصراعات ونتائجها، لا بالمعنى السياسي فحسب، وإنما بوقعها الاجتماعي والاقتصادي والفكري، وادراك أهمية دور المثقف في حياة الناس يقودنا الى معنى (المعرفة) و(الثقافة) في العلاقات المختلفة، فكل معرفة تصبح سبيلا للنفوذ أيضا، والمثقف برأي أدوارد سعيد هو فرد له دور عام قاطع في المجتمع، ولا يمكن اختزاله إلى محض مهني من دون ملامح خاصة، ذلك انه أولا وقبل كل شيء صاحب موهبة في تمثيل رسالة ما، وهو شريك في تفعيل الحياة العامة واتخاذ المواقف والآراء التي تخص حياة الناس وتطلعاتهم
وآمالهم.
السؤال الأهم: هل مازال المثقف هو صاحب الدور الريادي؟ بل هل مازال للمثقف دور يؤديه؟ في ظل المتغيرات الثقافية والسياسية من حوله، فهناك من يذهب في رؤيته لهذا الدور الى تراجع دور المثقف وتضاؤله في الواقع العراقي، بل هو مصاب بالعجز أمام الظواهر الشاذة التي تستنزف الحياة، وتدفع به الى حالة من الإحباط واليأس، أو العزلة أو الهجرة، وهناك من يرى خلاف ذلك، إذ يزعم هؤلاء ان المثقف يصنع هذا الواقع ليوهن نفسه أو ليواسيها، أو هو عاجز عن التآلف مع تحولات العصر وديناميكية الحياة، بشعور منه بالتفوق والتميز. باعتقادنا ان الثقافة العراقية بأدواتها المتعددة قادرة على الخروج من هذا المأزق، بفهم عميق لما يجري، وبوعي للمتغيرات المتسارعة في العالم.
الثقافة العراقية
ويوضح عبد الحليم الرهيمي- باحث في تاريخ الحركات الاسلامية- هذا التساؤل مهم لأنه ينطوي على دلالات مهمة أولها انه يعكس ازمة الثقافة والمثقفين بشكل عام في نظام سياسي مأزوم. والمهم هنا أن نحدد ابتداءً من هو المثقف او من هم المثقفون؟ لكي نحدد تالياً العوامل التي ادت الى فشلهم في انجاز مهامهم الأساسية، وفيما إذا كانت تعبر عن الانتماءات الضيقة أو ذات الطبيعة الوطنية. إذا اخذنا بتوصيف المثقف الذي يقول بأنه منتج للأفكار والثقافة والمعرفة وفق رؤيته وقناعته الفكرية والأيديولوجية فإن المثقفين ينقسمون ويتمايزون عن بعضهم وفق تلك الانتماءات، فهناك مثقفون إسلاميون ومثقفون قوميون وليبراليون ووطنيون.. وهكذا. بمعنى لا يمكن تعميم الفشل او النجاح على الجميع. قبل العام 2003 كان هناك اتجاهان بين المثقفين الاول: مثقفو السلطة الذين وظفوا (انجازهم الثقافي) لخدمة السلطة وتبرير سياساتها الدكتاتورية بمختلف السبل وبمختلف اتجاهاتهم، اما بعد هذا التاريخ فقد ورث جميع المثقفين بمختلف اتجاهاتهم التأثيرات التي اثرت بهم منذ المرحلة السابقة او اضيف اليها تأثير المستجدات السياسية والاجتماعية والثقافية بعد هذا التاريخ، أما مثقفو الإسلام وتحديداً مثقفو الإسلام السياسي بجميع تنوعاته فقد حققوا نجاحاً وفشلا ضئيلا في التعبير عن المهام الأساسية التي وضعوها لأنفسهم، اما التيارات القومية والليبرالية واليسارية فقد فشلت في التعبير عن نجاحها في تحقيق مهامها وذلك لضعفها السياسي والاجتماعي. أما التيار الوطني المدني الديمقراطي العراقي الذي يطمح وتتعاطف معه أغلبية العراقيين، فإنه لم ينجح في تحقيق المهام الوطنية الأساسية التي وضعها للاعتبارات نفسها والأسباب ذاتها للتيارات الاخرى، لذلك لم نشهد اي انتاج فكري ثقافي معرفي مهم جرى التعبير عنه بأدوات النشر المعروفة ولم نشهد تأثيراته الواسعة في تحقيق مهامها الأساسية وإن عبرت عن ذلك التظاهرات وانتفاضة تشرين إعلامياً ولم يتجسد بتعبيرات عملية التي حد من انجاز مهامه الأساسية على الصعيد الفكري والمعرفي واقعياً، بما شكل ظاهرة فكرية معرفية تاريخية يمكن التأثير
عليها.