{غدا} عندما تلتبس الأشياء

ثقافة 2021/02/24
...

 هدية حسين
ما الذي يحدث حينما يأتي المستقبل ويعيش في الحاضر ساحباً بدوره الماضي ويتصارع الجميع من أجل إيجاد حل لهذا التشابك؟، كيف لنا أن نخلق ثغرة في جدار الزمن لنعبره الى حيث نريد؟، على أرض الواقع لا يتحقق الأمر، لكن للخيال سطوته في الفنون والآداب، وهذا ما تدور حوله رواية (غداً) التي تتحدى قوانين الزمن وتخلق عوالمها من خيال الكاتب الفرنسي غيوم ميسو، وما على القارئ إلا أن يكون صبوراً وهو يدخل الى هذه المتاهة ويكون ملماً قبل ذلك بما أبدعته التكنولوجيا الحديثة، وإلا ستضيع منه الخيوط التي تربط نسيج هذه الرواية التي تمتد على 494 صفحة.
تبدو الأحداث ملتصقة بواقعيتها في البداية، ماتيو شابيرو أستاذ فلسفة في إحدى الجامعات، يعيش حياة سعيدة مع زوجته كيت التي يحبها جداً، ومع طفلته إيميلي ذات السنوات الأربع، ولكن بعد مقتل زوجته لم تعد حياته سوى كابوس، وبرغم الدعم من أصدقائه إلا أنه يرفض الارتباط بأية امرأة.. لكن سير الرواية ينعطف الى حياة أخرى تبتعد عن الواقع لتدخل في تشابك الزمن الذي يأخذنا الى اللامعقول، عندما يشتري ماتيو حاسوباً مستعملاً ويكتشف أن بعض الملفات للمستخدم السابق لم يتم مسحها، ومنها ملف الصور، ولأنه وجد بعض المعلومات مدونة فقد أرسل رسالة الى إيميل (إيما لوفينشتاين) يخبرها بأنه وجد ملف صورها، ويسألها ماذا عليه أن يفعل، هل يمسحها أم يرسلها لها؟، هذه هي البداية الحقيقية للرواية إذ سندخل الى غرائبها الإلكترونية التي تغير من الواقع وتقلب مقاييسه.
وبعد عدة رسائل سنكتشف بأن الرسائل بينهما تصل بزمنين مختلفين، هو يبعث لها الرسائل في عام 2010 وهي تستلمها في العام 2011، وبعد محاولات من الطرفين قرر ماتيو أن يلتقي إيما، وتحدد الموعد في زمان ومكان معينين، وكل منهما حرص على لقاء الآخر، غير أنهما لم يلتقيا لأن فرق الزمن بينهما سنة من دون أن يعرفا ذلك، وتبدأ جهود إيما للبحث عن السبب، مستعينة بمراهق فرنسي يدعى ليوبولد لوبان، له إلمام كبير في أجهزة الحواسيب، لكن السبب الذي جاء من أجله البحث سيتطور الى أبحاث أخرى تغير من سير الأحداث فتقلبها رأساً على عقب، ستظهر ملفات قادمة من الماضي وتفرض نفسها على الحاضر، باستخدام تقنية المعلومات الحديثة التي لا يعرفها إلا القلة، ومنهم العبقري المراهق، الذي يتتبع أخبار كيت زوجة ماتيو قبل مقتلها، وتحدث المفاجأة التي تهز حياة ماتيو حين يكتشف من خلال رسائل إيما المرفقة بالصور والفيديوهات بأن زوجته كانت تخونه، لكن قبل ذلك ستكون دهشتنا أكبر عندما يذهب ماتيو الى الرجل الذي باع له الحاسوب ليعرف من هي إيما، ويخبرنا المؤلف على لسان الرجل بأن إيما هي شقيقته، وإنها ماتت انتحاراً بعد سلسلة الخيبات في حياتها.
فإذا كانت إيما ميتة كيف يمكنها التواصل مع ماتي؟، هذه المفاجآت وغيرها هي التي تبقي الرواية في دائرة التشويق حتى نهايتها، وإذا ما عدنا الى كيت ومطاردة إيما لها لمعرفة المزيد عن هذه الطبيبة المتمرسة في جراحات القلب، سنكتشف الكثير من المفاجآت في حياتها، فهي ليست طبيبة عادية وإنما لها خبرة كبيرة بكل ما يتعلق بجسم الإنسان من خلال فصيلة دمه التي تقودها الى ارتكاب جريمة متقنة تحيكها لزوجها من أجل عشيقها.
كل ما يجيء، منذ اكتشاف تلك الثغرة في جدار الزمن، سيكون بطريقة تحتاج من القارئ صبراً وأناة، لأنها ستأخذه الى تقنيات الكترونية صعبة، مصطلحات لم يسمع بها من قبل، أنظمة تتلاعب بالزمن، تعيد الموتى الى زمن حياتهم، تقلب الطاولة من كل شيء يجري في الواقع، لكن ما يحدث من خيال أو لامعقول يسير الى جانب الواقع فلا يفلت أحدهما من الآخر، فحين تتحرك الأحداث في المستقبل فإنها أيضاً، في الوقت نفسه تحدث في الحاضر أو الماضي، إيما التي ماتت انتحاراً تتبع خطوات كيت التي ماتت بحادث سيارة، تراها مع زوجها وابنتها وتذهب لتراقب تحركاتهم وكيف تبدو كيت امرأة مُحبة لزوجها بينما الزوج الغارق بحب زوجته غافل عما يجري من ورائه.
وهكذا نرى أن الحكاية تبدو واقعية، لكن الجديد فيها هو هذا العالم الالكتروني الذي أمسك بنا وأصبحت حياتنا معلقة بما يخبئه لنا، وهكذا أيضاً نصعد وننزل مع الزمن المختل وغير المنضبط الذي قرره لنا المؤلف غيوم ميسو، ليس هذا كل ما في الرواية، لأن التفاصيل كثيرة ومتشعبة، وقد أفاض الكاتب فيها الى حد الإسهاب في العديد من الصفحات التي يمكن اختزالها، لكن تبقى رواية (غداً) كما نقرأ على غلافها الأخير (تتزلّج ببراعة وإتقان على ما هو رقمي وعلى المكان والزمان).