ديباجة الأمر بالنزول

ثقافة 2021/02/24
...

   صادق الطريحي
 
  في ديباجة الأمر بالنزول، في صباح الديباجة تحديدا، وبدقة أكثر، في الساعة السابعة، في شارع المكتبات، في بابل العظمى، حيثُ نزل الأمرُ.   شاهدت العربات التي تجرُّها الخيول الهزيلة، لمْ يسمع المارّة حول بابل، رنين حدواتها الصدئة، حدواتها المصنوعة من حديد الجبال!! لم يسمعوا صدى الأجراس البرونزية الكابية الآن، الأجراس المصنوعة من نحاس قبرص، الأجراسَ المعلقة في أعناق الخيل، مذ بدأت الديباجة فكرة في ذهنه المكين، حتى إنشائها كتابا آخرَ، في كراسة من كراريس المكتبة.
   ثلاثُ عرباتٍ تحملُ شَخْصينِ بلباسٍ من القِماشِ الرّخيصِ، يَسترُ مَعرفتَهُما، امرأةٌ ورجلٌ ومتاعُهما الشّخصيّ، امرأةٌ في الخمسين، ورجلٌ في الحاديةِ والخمسينَ، امرأةٌ شاحبةٌ، بشَعرٍ مُشعّثٍ، ورجلٌ، حليقُ الرّأسِ مُصابٌ برَصاصةٍ في ضِلعهِ الأيسرِ.   في الصّباحِ، كُنتُ طفلًا، في العاشرةِ من العُمرِ كُنتُ، شاهدتُ العرباتِ تَمرُّ على الأسْفَلتِ المُشقّقِ، عربةً إثر عربةٍ، سَمِعتُ رنّةَ العجلاتِ الخَشبيّةِ، العجلاتُ المصنوعةُ من خشبِ شجرةِ السّدرِ، سَمِعتُ هَسهَسةَ الكلماتِ في الدّيباجَةِ، سَمِعتُ تزاحُمَ الأضدادِ في المتاعِ، وعنْ قُربٍ سَمِعتُ دقّاتِ ساعَةِ البلديّةِ تُعلنُ السّاعَةَ السّابعة، فكتبتُ هذه القصيدةَ، ولوّحتُ للرّجلِ؛ كي يستريحَ، كي يشربوا الشّايَ في مقهى الفراتِ، مقابلَ المكتبةِ، فلمْ يلتفتْ لي!! 
   وحدها المرأةُ، المشعّثةُ، الجميلةُ، الحيّيةُ، هي التي التفتتْ لي، قامتْ، فَضَحِكَتْ، وكانَ الذّراعُ الأيمنُ القصيرُ للجسرِ القديمِ على شَطّ الحِلّةِ، يرتفعُ، ببطءٍ، بقوّةِ الكَهرباءِ، وحبالِ الفولاذِ؛ كي يَعبرَ القاربُ عَشتار المحمّلُ بالشّعيرِ، توقّفَ القاربُ الصّغيرُ، ونادى الملّاحُ المُسنّ، خمسَ مرّاتٍ: هيّا إلى الجَنوبْ، هيّا إلى النّهرِ الأخيرْ... 
فقالَ الرّجلُ مخاطبًا امرأتَه: يا بُشرى، هذا قاربُ النّزولْ.
وترجّلا، وهُما يَحملانِ مَتاعَهُما والكتابْ.
في الجُمعةِ المباركةِ، في صَباحِ الكتابِ المُنضّدِ الجَميلِ، في كُرّاسةِ النّاجينَ من الفيروسِ، كنتُ شابًّا، في الخامسةِ والعشرينَ من العُمرِ كنتُ، خَرجتُ إلى شارعِ المكتباتِ، ترافقُني المرأةُ الجميلةُ، الحيّيةُ، السّيّدةُ الثّريّةُ، الصديقةُ، بشَعرِها المُصَفّفِ، بثوبِها الآراميّ، لا أثرَ للعرباتِ، ولا أثرَ للخيولِ الهزيلةِ، فما عادَ المارّةُ حولَ بابلَ يركبونَ العرباتِ التي تجرُّهُا الخيولُ، ونحنُ نشرَبُ الشّايَ في مقهى الفُراتِ، مقابلَ المكتبةِ، سَمِعتُ ساعَةَ البلديّةِ تُعلنُ السّابعةَ صَباحًا، سَمِعتُ أنينَ حبالِ الفولاذِ، وهْيَ لا تستطيعُ أنْ ترفعَ الجِسْرَ إلى الأعلى، فما مَرّ القاربُ الجميلُ عَشتار، رأيتُ الملّاحَ المُسنّ راقدًا في القاربِ الصّغيرِ، سَمِعتُ صَفّارةَ القطارِ الذّاهبِ إلى الجَنوبِ، سَمِعتُ شَخيرَ الجنودِ الرّاقدينَ في القطارِ الباردِ البطيء...
   وفي المكتبةِ نبّهتْني المرأةُ الجميلةُ، الحيّيةُ، السّيّدةُ الثّريّةُ، الصديقةُ، المرأةُ ذاتُ الشَّعرِ المُصفّفِ، والثَّوبِ الآراميّ الذي يكشفُ عن كتفِها الأيمنِ أنْ أقرأَ، قالتْ: إنّما أنتَ قارئٌ..فقرأتُ في الكتابِ الأخيرْ. 
    قرأتُ أوّلَ الفصولِ، فصلَ تكوينِ بابلَ من طينٍ لازبٍ، لازمٍ، لاتبِ.
    قرأتُ فصلَ الخُروجِ من الجنّةِ، فصلَ الخروجِ من الكُوفةِ، حيثُ وُلِدتْ المرأةُ الجميلةُ، السّيّدةُ الثّريّةُ، الصديقةُ ـ المرأةُ التي أحبّها ـ في بيتٍ مسوّرٍ بالنّخلِ، قربَ الفراتْ.
    قرأتُ فصلَ الصّعودِ إلى مدينةِ السّلامِ، إلى بغدادَ الجديدةِ، حيثُ كنيسةُ الملكِ القتيلِ تُمّوزَ تقيمُ قدّاسَ الأحَدِ في ذكرى العشّاقِ الشّهداءْ. 
    وفي الصّباحِ المبكّرِ، في ساعةٍ ما، فما عادتْ ساعَةُ البلديّةِ تَعملُ، سقطتْ قذيفةُ هاون فوقَ المكتبةِ، أصابتِ الشّظيةُ ضِلعيَ الأيسرَ، واحترقتِ الدّيباجةُ، واحترقَ الثّوبُ الآراميّ للمرأةِ التي أحبّها، نقلونا إلى المستشفى في العرباتِ التي تَجرُّها الخيولُ، لوّحتُ إلى الملّاحِ المُسنّ أنْ ينقلُنا إلى الجَنوبِ، فقالَ:
   لقَد جَفّ النّهرُ الأخيرْ.