خيال لا ينقطع: قراءة في {ألف ليلة وليلة}

فلكلور 2021/02/24
...

 سعيد الغانمي 

 
كنت سابقاً حين أفرغ من كتاب، أكافئُ نفسي بشراء علبةِ دخانٍ غالية، لكنني اقلعت عن التدخين منذ ثماني سنوات، أو أدعو نفسي إلى مطعم فخمٍ، لكن أكلي صار يلتزم بالفاكهة والخضر والأكلات المنضبطة، أو أسافر احتفاءً بالمناسبة فأقضي الإجازة، وللأسف فإن الوباء قد جعل هذا الخيار مستبعداً جداً. لذلك لم يعدْ أمامي من خيارٍ سوى مشاركة القارئ بنشر جزءٍ من مقدمة كتاب "خيال لا ينقطع: قراءة في ألف ليلة وليلة"، الذي انتهيت من كتابة مسوَّدته الأولى.
وظيفتان في آن واحد
من حيثُ البناءُ الداخليُّ للكتاب، أرادَتْ شهرزادُ للسَّرد أن يقومَ بوظيفتينِ في وقتٍ واحدٍ؛ الأولى تعليق اهتمام شهريار برواية الحكايات له، حتّى لا تسمحَ له بأن يفكِّرَ في قتلِها. وهكذا صار السَّرد يقوم بوظيفة دفاعيَّة. كلُّ قصَّة ترويها شهرزادُ لشهريارَ تعادلُ الحياةَ نفسها. وبالتالي كلَّما زادت شهرزاد من رواية الحكايات زادَتْ فرصُها في الحياة. فالسَّرد هو الحياة نفسها.
والوظيفة الثانية هي تخليص شهريار من عقدتِهِ النَّرجسيَّة. لقد أُصيبَ شهريار بعقدة نرجسيَّة لا شفاءَ منها، حين رأى زوجتَهُ تخونُهُ. ولذلك قرَّرَ الانتقام من جنس النِّساء جميعاً. يتزوَّج الجارية في يومٍ، ويقتلُها في اليوم التالي، حتّى لم تعدْ توجد في المدينة نساء. من هنا رأتْ شهرزاد أنَّ السَّرد يجب أنْ يقومَ بالوظيفة الثانية، وهي تخليص الملك السَّعيد من آثار التَّعاسة النَّفسيَّة التي جعلتْهُ عدوانيّاً مشغوفاً بقتل النِّساء البريئات. وما دامت هذه العقدة حيَّةً في نفسه، فإنَّها قد تتسبَّبُ في قتل شهرزاد نفسها. لذلك ينبغي أن تحرصَ على تسريب علاجِها تسريباً بحيث تجعل السَّرد وسيلةً لشفائِهِ منها، تماماً كما تجعلُهُ وسيلةً للدِّفاع عن حياتها شخصيّاً، وحياة بنات جنسها عموماً.
إذا فكَّرنا بهاتين الوظيفتين معاً، لا من حيث المحتوى، بل من حيث الشَّكل، وجدنا أنَّهما تفترضانِ نوعَ العلاقة بين الراوي والمرويِّ له في السَّرد. فالراوي هنا متورِّط، يمثِّل له السَّرد أُفقَ الحياةِ أمامَهُ، ويهدِّده الانقطاع عنه بالتَّعرُّض لشبح الموت. والمرويُّ له مريضٌ قَلِقٌ، لا بدَّ من معالجتِهِ بالسَّرد، لترويض قلقِهِ الرُّوحيِّ. وهكذا يحتاج السَّرد إلى توريط الاثنين، ومكافأة الاثنين معاً. يجب أنْ يقبلا بهذه اللُّعبة المشتركة، ويدخلا فيها برضاهما، وبالنَّتيجة تعود على الاثنين بالفائدة. تعودُ على الراوي باستمرارِ الحياةِ، حين تتحوَّل الحياة نفسها إلى سردٍ، وعلى المرويِّ له بالخروج من أعبائِهِ النَّفسيَّة، ومغادرة أمراضه وعلله الرُّوحيَّة.
 
جرح نرجسي
وقد تدرَّجتْ شهرزاد في اختيار الموضوعات المناسبة لمعالجة هذا الجرح النَّرجسيِّ. في البداية، فرضَتِ الحكاية الإطاريَّة، وهي من دون ريب تتعلَّقُ بالخيانة الزَّوجيَّة، موضوعتَها على الحكايات المجاورة القريبة منها، فكانت أغلب الحكايات الأولى تتعلَّق بالخيانة، الزَّوجيَّة أو الإنسانيَّة عموماً. لكنَّ جميع الحكايات التي روَتْها شهرزاد لم تترتَّب عليها عقدة نرجسيَّة، كالتي أصابت شهريار، مهما بلغت درجة الخيانة فيها، وبعضُها أضعافٌ مضاعفةٌ لما رآه شهريار. فكان الدَّرس المستقى منها أنَّ الخيانة الزَّوجيَّة ممكنة في الحياة، لكنْ على مَن يتعرَّض لها أن يتجنَّبَ بقدر ما يستطيع ما يترتَّب عليها من آثار نفسيَّة، أو في الأقلِّ أن يعالج نفسه منها.
ويتمثَّل الدَّرس الثاني للسَّرد في انقلاب الأدوار وتحوُّل المصائر. فكما أنَّ للسَّرد مفاجآته، كذلك للحياة مفاجآتها، التي يمكن أن تهبط بالملوك إلى الحضيض، أو أن ترتفع بالعبيد أو الحمّالين إلى الذُّرى والقمم. وعلى المرء أن يضع نصب عينيه انقلاب الأدوار، الذي ينقل الملوك من عروشِهم العالية إلى الدُّركات السُّفلى مع الفقراء والمشرَّدين، وينتقل بالعبيد والمسحوقين والشَّحّاذين إلى الصَّدارة الاجتماعيَّة. وهنا فإنَّ حكمة السَّرد تُعلِّمُ المرء أن يحتاط لكلِّ هذه الأشياء، وألّا ينخدع بالمظاهر الغادرة. على الملوك أن يتعاملوا مع رعاياهم وكأنَّهم فقراء مثلهم، وأن يطمح الفقراء في الحكم وكأنَّهم ملوك، ولو في الأحلام.
من ناحيةٍ أخرى، تنطوي السُّخرية على قدرة نقديَّة، لذلك يجب السَّماح بها. وقد سمح هارون الرَّشيد، وهو المثل الأعلى للملوكيَّة في تصوُّر "ألف ليلة وليلة"، بوجود السُّخرية في التَّعامل معه، مع قدرتِهِ على القضاء عليها، ليس فقط حين كان يتنكَّرُ ويختلط بالرَّعيَّة ليتعرَّفَ على مشكلاتها، بل أيضاً هبط لمستواهم، وأتاح لحمّال أو صيّاد أو حدّاد أن يسخر منه، من دون أن يعلم أنَّه "الخليفة"، أي المثل الأعلى للملوكيَّة. وقد رضيَ الرَّشيد بهذا الدَّور، لأنَّه يعرف أنَّ الحياة من حيث هي سردٌ يمكن أن تحمل مفاجآتها، فضلاً عن ذلك، فإنَّ من شأن السُّخرية أن تنفِّسَ قليلاً عن كآبة الواقع الراهن. وهذا الدَّرس يجب أن يضعه شهريار في اعتبارِهِ.
 
وهم الخلود
وقد يستبدُّ الغرورُ ببعض الملوك، فيتصوَّرون أنَّ سلطتهم ستدومُ أبداً. وهذا ما قد يُفضي بهم إلى ارتكاب أبشع الجرائم، لذلك لا بدَّ من تذكيرهم بأنَّ الخلود الفعليَّ لا يُتاح لأحدٍ من البشر، مهما أُوتيَ من أسباب السُّلطة والقوَّة والنُّفوذ. وليس أدلَّ على ذلك من سلسلة الحكايات التي تتضمَّنُها حكاية "حاسب كريم الدِّين"، حيث حاول أغلب شخصيّات هذه الحكايات أن يحصلوا على الخلود الفعليِّ بنيل "العشبِ الذي لا يموتُ مَن أكلَهُ"، لكنَّ مشاريعَهم انتهت بالإخفاق على نحوٍ مروِّعٍ. نفخَتِ الحيَّةُ في وجه عفّان، وهو يحاول السَّطو على خاتم السَّيِّد سليمان، فصارَ رماداً متطايراً، وبنى جانشاه قبرَهُ بيديه إلى جوار قبر حبيبتِهِ، وبقيَ يقضي حياتَهُ بالبكاء فوق القبرينِ.
ولكنْ إذا استحال مشروع الخلود الفعليِّ، فإنَّ مشروع الخلود السَّرديِّ ممكنٌ، وهو ما يتحقَّق عن طريق الأعمال العظيمة التي تشيِّدُها الشَّخصيّات العظيمة، وتتركُها وراءها لمصلحة شعوبها. وبالتالي فإنَّ المجد الأبقى هو أن يتحوَّلَ الملوك إلى شخصيّات تأسيسيَّة تطوِّر مجتمعاتها وتعمِّرُها. وحين يعزُّ عليها الخلود الشَّخصيُّ، فإنَّها تعيش في قلوب رعاياها وضمائرهم، وتتحوَّل إلى شخصيّات رمزيَّة مؤسِّسة يُقتدى بها في بناء المجتمعات، وتصيرُ مُثُلاً عليا في المرويّات المتبادلة عنها.
 
موضوعة الخيانة الزَّوجيَّة
وينتهي سرد كتاب "ألف ليلة وليلة" بالموضوعة التي ابتدأ بها، أعني موضوعة الخيانة الزَّوجيَّة. لا بدَّ للملك أن يُدرك أنَّ كلَّ شيءٍ يدور حول الجرح النَّرجسيِّ الخطير الذي أصابَهُ. ولن يستطيع تجاوز مرحلة هذا الجرح إلّا إذا تمكَّنَ من أن يفهم أنَّ العالم مليءٌ بالنَّماذج الأخرى من النِّساء المخلصات اللَّواتي يُضحِّينَ بحياتهنَّ من أجل أزواجهنَّ وأحبّائهنَّ. عليه أن يفهم أنَّ هناك نساءً مخلصاتٍ، بقدر ما توجد نساءٌ خائناتٌ. وليس هذا لإدراك العالم في ذاته، بل لتجاوز هذه العقدة النَّرجسيَّة التي سمَّمَتْ حياتَهُ ورنَّقَتْ وجودَهُ. ولن ينجوَ منها ما لم يضعْ نصب عينيه أنَّ هناك نساءً مخلصاتٍ، من طراز مريم الزَّنّاريَّة، وجارية الفتى البغداديِّ، وكوكب الصَّباح زوجة الجوهريِّ المصريَّة، وزوجة معروف الإسكافيِّ الثانية. وبهذه المجموعة من الحكايات اكتملت دائرة السَّرد، وعاد إلى نقطةِ بدئِهِ. وإذا تمكَّنَ شهريار من معرفة ذلك، فإنَّه يكون قد تخلَّصَ من عبء المرارة النَّفسيَّة، واستعادَ براءتَهُ وسلامتَهُ وسويَّتَهُ.
كتاب "ألف ليلة وليلة" كتابٌ مركَّبٌ، يُرائي بالبساطة، ويغصُّ بالتَّعقيد، ويدَّعي الشَّعبيَّة، في حين يتصرَّف ككتابٍ رفيعٍ، يستطيع اقتحام اللُّغات والثَّقافات المتباعدة. والغريب أنَّه يتمكَّنُ دائماً من الدُّخول في الذاكرة الثَّقافيَّة للثَّقافات التي ينتقل إليها. وهكذا تزعم جميع الثَّقافات أنَّه جزءٌ من ذاكرتها الثَّقافيَّة. ولعلَّه يقوم بذلك من خلال تبنِّيه هاتين الوظيفتين اللَّتين تحدَّثتُ عنهما، وانشغاله بالموضوعات السِّتِّ التي ركَّزَ عليها. وهنا نفهم الحيلة التي مرَّرَها، ويمرِّرُها، علينا هذا الكتاب، فهو يُرائي بالشَّعبيَّة البسيطة، لكنَّه في الحقيقة يمارس تأثيراً سحريّاً يتخطَّى حدود الثَّقافة المحلِّيَّة ليلتصق بالعالميَّة. وبرغم أنَّه بقيَ باستمرارٍ يحمل الانتماء إلى العرب باسمه "اللَّيالي العربيَّة"، فقد صارت تدَّعيه جميع الثَّقافات واقعيّاً.
 
كتابة ممتعة
ممّا يُسعِدُ المؤلِّف أن يضع خطَّةً، ويتمكَّنَ من إنجازها، ربَّما بأفضلَ ممّا توقَّعَهُ لدى الوهلة الأولى. ولستُ أُخفي أنَّ كتابة هذا العمل كانت مليئةً بالمتعة، التي أتمنَّى أن يُشاركني بها القارئ، فيتوصَّلَ إلى متعة اكتشاف مماثلة. لقد كانت الخطَّة التي وضعتُها محدودةً بكتابة ثلاثة فصولٍ تُعنى بالخاصِّيَّة الصِّنفيَّة للكتاب، وستَّة فصول أخرى تتناول الموضوعات التي شملَها البحث، بدءاً من الحكاية الإطاريَّة، وحكايات الخيانات الأولى التي تمسخُ فيها النِّسوة أزواجَهنَّ وينتقمنَ منهم، دون أن يتركَ ذلك فيهم أيَّ أثرٍ على جرحٍ نرجسيٍّ، وانتهاءً بالحكايات التي تتحدَّث عن إخلاص النِّساء الفضليات، اللَّواتي لم يستطعْ شهريار أن يراهنَّ في عالمِهِ الضَّيِّق. وللأمانة، فما زلتُ أشعر بأنَّ الكتاب ينطوي على كثيرٍ من الموضوعات التي تستحقُّ البحث، وأرجو أن يهتمَّ بها القارئ ويحيطَها باستكشافه، أو قد يسعفني الحظُّ بالعودة إليها في بحثٍ آخرَ.