البصرة: صفاء ذياب
على الرغم من الكتب الكثيرة التي صدرت عن الشخصيات السردية في التراث العربي، غير أن المكتبة العربية ما زالت تفتقد لمعجم معد بطريقة أكاديمية لهذه الشخصيات، ويقدم لهم تصوّراً منهجياً واضحاً عن طبيعة الشخصيات السردية في المدوّنة الحكائية التراثية، ويمنحهم معرفةً واضحةً عن الدور البنيوي للشخصيات، ضمن كل نص سردي، ولا تقتصر وظيفته على وصف الشخصيات، كما ظهرت في النصوص- على مستوى الشكل وعلى مستوى الحامل الفكري- بل يقدم معرفةً منهجيةً علميةً بتلك الشخصيات.
وهذا ما حدا الدكتور لؤي علي خليل بالشروع لتأليف كتابه الصادر مؤخراً عن دار كنوز المعرفة في عمّان (معجم الشخصيات السردية في التراث الحكائي.. المعايير والوظائف). ويكشف الدكتور خليل في تمهيده للكتاب، أنه بدأ التفكير في ضرورة هذا المعجم منذ أن درَّس مقررات (السرد) في برامج الدراسات العليا (ماجستير/ دكتوراه)؛ إذ كانت أسئلة الطلاب، المتعلقة بكثير من الشخصيات الحكائية، لا تلقى إجاباتٍ وافيةً تروي شغفهم المعرفي؛ وأدى تراكم هذه الأسئلة عنده إلى التفكير بضرورة إيجاد حلٍّ علمي منهجي، يُؤطّر تلك الأسئلة، ويُعين على إيجاد أجوبةٍ ناجعةٍ لها، تنسجم مع ما استجد من دراسات في حقل السرديات.
مضيفاً: وكان لا بد لي- قبل البدء بالعمل التطبيقي- من وضع معايير ضابطة لصناعة المعجم، تكون بمنزلة الدليل المرشد للفريق البحثي، ولِكلِّ من رام صناعةَ معجمٍ مماثل لنصوصٍ حكائيةٍ أخرى، ولاسيما أن العمل هو الأول في بابه، ولم يُسبق بتجربة أخرى مماثلة، وكذلك لضمان المنهجية العلمية التي تخدم أهداف العمل، وليخرج العملُ مُوَحَّداً منسجماً، فعكفتُ على قراءة المقامات، وتطوير معاييرَ خاصةٍ تُنظم آلية التعامل مع الشخصيات، وطريقة ضبطها وتصنيفها. وقد حرصتُ على أن تغطي المعايير المختارة شريحةً واسعةً من المساحات المعرفية المتعلقة بالشخصيات السردية، بحيث تُقدِّم أكبر قدر من الفائدة؛ وهذا ما جعلها تتنامى إلى أن تصل إلى ثلاثة عشر معياراً، يرصد كلٌّ منها وجوهاً مختلفة من وجوه الشخصيات؛ فيُوثّق المعيارُ الأول الشخصيةَ في النص، ويشير إلى اسمها، أو لقبها الذي تظهر به، ومكان وجودها في النص.
ويضبط المعيار الثاني نوع الشخصية من منظورين مختلفين، طبيعتها الوجودية وجنسها: (متخيلة/حقيقية/لغوية)، (بشر/حيوان/شيء). كما يرصد المعيار الثالث الهيئة الخارجية للشخصية، من جهة عمرها، وخصائصها الجسدية، وملبسها، ومهنتها، ومتعلقاتها؛ فبعض الشخوص تأتي دائماً بمُتَعلَّقات محدَّدة لا تكاد تُجاوِزُها أو تُغيّرها، فقد تأتي برفقة حمارٍ، أو مخطوطٍ فيه كتابة أو دعاء، أو غير ذلك من متعلقات مختلفة.
ويرصد المعيار الرابع الهيئة الداخلية للشخصية؛ فيعرض أخلاقَها وطباعها، كما ظهرت في النص، وكذلك سمعتها وثقافتها. ويهتم المعياران الخامس والسادس بعنصري الزمان والمكان؛ فيوضح الخامس زمن ظهور الشخصية من جهة الوقت، ومن جهة زمن التسلسل الحكائي، على حين يوضح المعيار السادس مكان ظهورها، وانتماءها الجغرافي. ويرصد المعيار السابع الانتماءين العرقي والديني للشخصية. وينتقل المعيار الثامن إلى رصد الأفعال الحكائية للشخصية داخل النص. ويُراعي المعيار التاسع حجم حضور الشخصيات في النص؛ فيُميز بين شخصيات رئيسة، وشخصيات ثانوية، وشخصيات هامشية.
ويرصد المعيار العاشر الخصوصية اللغوية للشخصيات؛ فيحدد نوع الحوار الذي تلتزم به (خارجي/داخلي)، ونوع اللغة التي تتحدث بها (فصحى/عامية)، ومستواها أيضاً (أدبية/غير أدبية)، (نخبوية عالمة/ مبتذلة)، كما يرصد هذا المعيار الخصائص الأسلوبية لِلُغة الشخصية، إن وجدت. أما المعيار الحادي عشر فيقيس الشخصيات على وظائف بروب المعروفة: (مُعتَدٍ/معتدى عليه، واهِب، مُساعِد، موضوع البحث، بطل، بطل مُزيّف، مُوكّل). وفي مقابل ذلك يقيس المعيار الثاني عشر الشخصيات على الوظائف السردية الخاصة التي قمتُ والباحثة إسلام علي أبو زيد باستخراجها من (المقامات)، وهي: (دائرة الرواية، دائرة موضوع المقامة، دائرة الأذى، دائرة الشك، دائرة الضحية). وينفرد المعيار الأخير بضبط البعد الثقافي للشخصيات، من جهة دلالاتها الثقافية، ومن جهة قابليتها أن تكون رمزاً أو أيقونةً أو إشارة.
ويبين خليل أنه بدا له أثناء العمل أنه من غير الممكن تصنيف الشخصيات من دون تحديد وظائفها السردية، فلا يكتمل للمعجم السردي مراده من غير تحديد تلك الوظائف، مما اقتضى النظر في ما آلت إليه الحركة النقدية الخاصة بالوظائف السردية، منذ أن اقترحها بروب مروراً باجتهادات لوتمان وفيليب هامون، وهذا ما يشرحه المبحث الثاني؛ إذ قام باختبار وظائف بروب السردية على نصوص المقامات التي رأيتُ أن تكون أول نص نوعي أبني عليه فكرة المعجم، وخلصنا إلى أنها لا تناسب طبيعة الشخصيات في فن المقامات، ذلك أن بروب كان قد استنبطها من نماذج تتعلق بحكاياتٍ خرافية، تختلف في نوعها عن نصوص المقامات، مما دعا إلى ضرورة إيجاد وظائفَ سرديةٍ بديلة، تراعي الطبيعة النوعية لنصوص المقامات، وتأخذ بمستجدات الدراسات التي أُنجزت في هذا المجال، وخلصنا من دراسة نصوص المقامات إلى إمكانية اقتراح خمس دوائر للوظائف السردية الخاصة بشخصياتها.
ثم عرض في المبحث الثالث/ الأخير من هذا الكتاب آليةَ العمل على جدول المعايير، الذي أُنجز في المبحث الأول، واخترت ثلاث مقامات من مقامات الهمذاني، لتكون ميداناً للتطبيق، وحددتها وبسطتها في القسم الأول من المبحث الثالث: (المقامة الأصفهانية، والمقامة البغداذية، والمقامة المضيرية)، ثم صنّفت شخصياتها في القسم الثاني من المبحث، بناءً على جدول المعايير المقترح، بعد أن أضفت إليه النتائج التي خلصنا إليها في المبحث الثاني الخاص بالوظائف السردية، وجعلت لكل شخصية جدولاً مستقلاً، بحيث استوفيتُ شخصيات المقامات المعنية كاملةً، ثم فرَّغت جداول الشخصيات في القسم الثالث من المبحث، على نحوٍ يناسب العمل المعجمي المنشود، لتكون أنموذجاً قابلاً للقياس، وهذا ما جعل المبحث الأخير من أطول مباحث الكتاب عددَ صفحات؛ بسبب طبيعته التطبيقية.
الكتاب قسّم على ثلاثة مباحث رئيسة، جاءت بعد المقدمة والتعريف بالمعجم كتمهيد، هذه المباحث هي: معايير صناعة المعجم، واختبار الوظائف السردية، وأخيراً: أنموذج تطبيقي.